أبريل 25, 2024

مَن يُكرّمُ مَن ؟

shamlanكلمة هيثم مناع في حفلة التكريم في المنامة بمناسبة منحه درع أحمد الشملان لحقوق الإنسان من الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان في 26/1/2010 

زرت مملكة البحرين أول مرة، بعد ثلاثين عاما من تعرفي على مناضليها ومناضلاتها في المنفى، كان هؤلاء لي حملة صورة جميلة لهذا البلد وشعبه لا يمكن أن تغادر ذهني. كانوا قدوة وأمثولة تعلمت منها الكثير الكثير في حياتي النضالية السياسية والحقوقية، من شيمهم أنهم يؤثرون على أنفسهم ولو كانت بهم خصاصة، ويعطون غريمهم السياسي التقدير الذي يستحق والغائب صورة تمنحه حقه.. لذا أحببنا الشهيد معهم ودافعنا عن المعتقل وأعجبنا بمناضلي الداخل وعشنا لحظات السراء والضراء. وعندما أقف اليوم بينكم مع أحمد وفوزية أسأل نفسي بكل صدق وأمانة وتواضع: مَن يُكرّمُ مَن؟ أليس أحمد وعبد الرحمن وعبد الجليل وفوزية وسبيكة وموسى ومنيرة وعبد النبي وعيسى وعبد الهادي ومنصور (وكل الأحبة لأن القائمة طويلة) أحق مني برسالة شكر أبدية لما قدموه لي في تجربتي المتواضعة وما علموني من خلق وقدرة على العطاء والصمود والتحمل.. نعم أيها الأخوة والأخوات الأحبة من حقي أن أسأل اليوم وغدا وبعد غد: من يكرم من؟ 

لا يمكن لكل من يتابع سيرة المناضل الكبير أحمد الشملان إلا أن يقف بإجلال على قدرة أحمد وجيله النضالي على اختصار حقب وأجيال ومراحل في حياة إنسان. فهناك شخصيات عرفت بنضالها من أجل التحرر من الاستعمار، وأخرى بنضالها النقابي والمطلبي، وثالثة بنضالها من أجل الإصلاح السياسي أو الاستقلال الثاني، ثمة من عاصر ما سمي بالمنظمات الشعبية وفشل في استعادة شبابه النضالي مع ما صار يعرف بالمنظمات المدنية. ثمة من اختار العريضة أو الإضراب ومن اختار الانتفاضة بكل تعبيراتها، في حالة “أبو خالد”، نحن أمام تجربة متعددة الميادين والموضوعات، عابرة الأجيال بلغتها المتجددة، وغنية بالقدرة على الجمع في كائن انساني واحد بين التحرر الوطني والحقوق الإنسانية والحريات الأساسية، بين محبة البحرين والنظرة الوحدوية والروح الأممية، من الاحتجاجات السلمية في الاعتصام والإضرابات والمسيرات والمظاهرات وإصدار البيانات، إلى حفر الخنادق وإقامة الحواجز في الشوارع والطرقات وتشكيل لجان مقاومة شعبية للهيمنة البريطانية ولعناصر الأمن والمخابرات وضرب دوريات المحتل وما يرمز له. ثم العودة لطاولة الدراسة وجلسات الرفاق السرية والبحث عن وسائل نضال جديدة تسمح باستعادة الأنفاس والمواقع بعد سنوات سجن رغم كل قساوتها، ويالها من مفارقة، كانت استراحة لمحاربين لم يعرفوا معنى الإجازة والراحة والابتعاد عن الهموم العامة.

إذا كان السجن هو المآل الفردي لأحمد الشملان بعد كل هزة مجتمعية يجد نفسه في أتونها وتجده في قلبها المحرك، فما هو الفارق الموضوعي والتاريخي للبحرين والمنطقة بين انتفاضة 1965 وما قامت به لجنة العريضة الشعبية في 1995؟ كيف يمكن تحقيق متابعة دقيقة لتاريخ البحرين وأن نقرأ أهم محاور لعبة الأمم وصراعات الشعوب من أجل التحرر والحرية والخبز والكرامة عبر السير الذاتية التي كانت سواقي النهر الجميل الذي روى قدرة مجموعة صغيرة من الجزر لا يعرف الكثير مكانها على الخارطة صدّرت للعالم صورا جميلة للمبادرات والخبرات النضالية المتجددة في أهم المشارب الفكرية المعاصرة في العالم العربي، قومية واشتراكية وإسلامية، وأغنت الحركة الحقوقية العربية والآسيوية بحضورها الفاعل والدينامي؟ 

لم تتسجل بعد معظم معالم النضالات الحديثة لشعب البحرين، وما فعلته المناضلة الباحثة فوزية مطر من محاولة تسجيل أمينة لتاريخ ما زال معظم لاعبيه على قيد الحياة، ليس  سوى قراءة سوسيولوجية سياسية ومدنية ساخنة ممزوجة بالدمعة والمحبة ومتربعة فوق أية حساسيات حزبية أو فئوية، محاولة تضعنا أمام كمٍّ هائل من الأسئلة ورغبة عارمة في استجواب كل قادر على الإدلاء بدلوه من أجل الاستيعاب الضروري لخصوبة مرحلة تاريخية نادرة والهضم السليم لهذه التجربة الغنية والحافلة بشكل يسمح للأجيال القادمة باستقراء حياة أفضل؟

 عندما يمنح التاريخ جيلا ومناضلين فرصة كهذه، فهو دون شك يقدم لهم فاتورة حساب ثقيلة على صعيد حياتهم الخاصة، في خياراتهم المهنية، في هواياتهم ورغباتهم الصريحة والدفينة، في دورهم اليومي الذي يتجاوزهم بكثير وأخيرا في صورة الناس عنهم التي تعتبر أنهم قدرة خارقة غير قابلة للعطب. وبقدر ما يكون المناضل منسجما مع نفسه عميقا في التزامه كلي العطاء، بقدر ما يكون هذا الإنسان الصلب في وجه تعبيرات الهيمنة والتسلط والظلم، شفافا رقيق القلب مرهف المشاعر يؤثر رفض الأذى والصمت عن كل مكروه، لذا لا نستغرب أن يكون المرض وسيلة تعبير يائسة لجسد نادى صاحبه مرارا ولم يستمع له، وروح ناجت صاحبها الرفق بها فما استمع.. عندما يكون الإنسان في معركة قضية، يتجرد الألم الشخصي ولا يظهر إلا عندما نسمع صفارات سيارة الإسعاف تحمل صديقا عزيزا أو زوجا أو أخا أو أبا فاق العطاء عنده كل قدرة للتحمل الإنساني الطبيعي وفوق الطبيعي..

هذا ما يحرمنا اليوم من تواجد أبو أمل معنا، يحرمنا من محمد السيد سعيد، يحرمنا من نخبة من خيار هذه الأمة، نسوا أنفسهم في معركة العطاء، وواجبنا جميعا أن لا ننسى ما قدموا لنا وللإنسانية