أبريل 20, 2024

الاستعصاء المذهبي

ibn reshedيتعرض مارك أوجيه في كتابه “عبقرية الوثنية”، لواحدة من أجرأ المقارنات بين الوثنية والمسيحية. ويمكن أن نقول بدون تعميم متسرع بالمقارنة بين الوثنية والديانات الإبراهيمية الثلاث إنه من وجهة نظر عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي المعروف، تتميز الوثنية راديكالياً عن المسيحية في ثلاث نقاط: الأولى كونها غير ثنوية ولا تعارض بين المعرفة والإيمان، والثانية أنها لا تجعل من الأخلاق مبدأ خارجا عن موازين القوى والحواس، والثالث أنها غير تبشيرية.

أورد هذا الاستشهاد للتذكير بأن التبشير ظاهرة جماعية رافقت كل الملل والنحل منذ انتصار التوحيد، بالمعنى الواسع للكلمة، على الوثنية. وقد عولم (بمعنى جعل الظاهرة عالمية) التوحيد التبشير ليشمل العلمانية وكل ما ينتهي بـ ism، بما في ذلك الفلسفات الإلحادية.

من هنا يبتسم المرء في شهر رمضان، الذي اكتشفت فيه البشرية القرآن، عندما يقرأ أن هناك استغرابا من الطابع التبشيري لهذا المذهب أو ذاك. وأكثر من ذلك، عندما تستعمل من علماء سنة وشيعة تعبيرات مثل: “سهولة التكفير عند أهل السنة لغيرهم”، “غياب المناعة عند الأكثرية السنية” أو “عدم الاستعداد للغزو الشيعي”.

وأخيرا، عندما نعود إلى فكرة الفرقة الناجية. وكأن في هذا الكوكب مؤمن واحد، يعتقد أن المذهب الذي ينتمي إليه هو الفرقة غير الناجية! إلى غير ذلك من مصطلحات تؤكد بعدا واحدا للتراشق السائد حول الشيعة والتشيع، هو تغييب المحاكمة العقلية والنقدية.

يمكن الحديث عن ملايين تنفقها جمهورية إيران الإسلامية لنشر مذهب الدولة فيها (وهو كذلك في الدستور الإيراني المادة 12 التي تقول: الدين الرسمي لإيران هو الإسلام والمذهب الجعفري الاثني عشري، وهذه المادة تبقى إلى الأبد غير قابلة للتغيير).

لكن من الضروري القول أيضا إن هناك مليارات تنفقها الممالك “السنية” لنشر الإسلام في العالم. وفي قضية نشر الدعوة، لا بد من موقف واضح بغض النظر عن الجغرافيا.

فقد خضنا مع أكثر من مفكر إسلامي معركة ضد جملة قالها جان ماري لوبن في 2006 “فرنسا وأوروبا لم تهيئا نفسيهما للغزو الديني الإسلامي”، واعتبرنا رأيه في صلب تعريفنا للإسلاموفوبيا واتهمناه بمناهضة حرية الفكر والاعتقاد رافضين أي قيود على انتشار الديانات غير المسيحية (بشكل أساسي الإسلام والبوذية) في القارة الأوروبية.

لأن هذا يتعارض مع العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية ومع الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحريات الأساسية. وعليه، أستغرب من مفكرين يدافعون عن حق المسلمين في نشر دينهم في أوروبا، أن يناهضوا نشر آراء هذا المذهب أو ذاك في البلدان الإسلامية؟

مثل آخر لازدواجية المعايير عندنا: منذ سبع سنوات ومدارس التبشير البروتستانتية المتطرفة تستثمر “الحرب على الإرهاب” بكل الوسائل، اللا أخلاقية قبل الأخلاقية. وذلك لضرب العمل الخيري الإسلامي الذي أصبح يشكل أهم عتلات نشر الإسلام في دول الجنوب.

وقد رضخت لضغوطها عدة دول، في مقدمتها المملكة العربية السعودية التي أغلقت مؤسسة الحرمين في الرياض. ذلك في وقت نجحنا فيه في إعادة فتح مكاتبها في أكثر من مدينة غربية! للأسف، لم نسمع يومها حركة احتجاج قوية من رجال الدين المسلمين للدفاع عن هذه الجمعيات. أين كانت حمية العلماء عندما صنفت الجمعيات الخيرية الإسلامية (السنية والشيعية) على قائمة الإرهاب؟ أم إن منطق السلطة يؤثر على موقفهم؟

يقول البعض إن علينا تجنب خلق أوضاع تتعدد فيها المذاهب، وبرأيي ليست المشكلة في التعدد. المشكلة تكمن في توظيف الاختلاف في إستراتيجيات سلطة.

في المثل العراقي، نجد أن التطبيع مع فكرة “البيت الشيعي” في العراق وضعت المذهبية فوق البرنامج الوطني، وفوق المواطنة، وفي مواجهة مشروع تكوين دولة حديثة.

هذا الجنوح المذهبي عند سياسيين عراقيين وجد تربة خصبة في الجانب الإيراني. فهل يوجد رابط واحد، غير الانتماء المذهبي، يجمع بين الحكومة الإيرانية وبعض أركان مشروع الاحتلال الأميركي في العراق (أحمد الجلبي وموفق الربيعي مثلا)؟

لا شك في أن هذا الطابع المذهبي للدولة الإيرانية يؤثر سلبا على علاقات الجمهورية الإسلامية بجيرانها. خاصة عندما تختبئ الدولة وراء صغار موظفيها، فمن يصدق أن موظفا من الدرجة الثالثة في وكالة أنباء إيرانية حكومية يستطيع أن يدلي بتصريح لا ينتقد وحسب، بل يتهم شخصية مركزية في الإسلام مثل الشيخ يوسف القرضاوي دون توجيهات عليا؟.

إذن هناك رسائل ورسائل مضادة، مباشرة حينا وغير مباشرة أحيانا أخرى، يتداخل فيها السياسي بالديني والمذهبي. لكنها رسائل محملة بالجمرة الخبيثة، وستخلق شروخا بين شعوب المنطقة يصعب ردمها، ناهيكم عن كونها تغيّب الحديث في التنمية والحريات الأساسية، وتهمش مفهوم الكرامة الإنسانية وحقوق الناس، وتغتال عظمة إسلام رفض الإكراه في الدين وفي المذهب، وتجعل من تفاصيل الفقه القرون وسطي منهج حياة. لم يعطنا التاريخ حتى اليوم مثلا واحدا لمذهب أو أيديولوجية تتضمن الردود على التحديات المجتمعية الكبرى.

من سوء طالعنا وبؤس أوضاعنا، أن الحوار السائد والصراعات المعلنة نخبوية سلفا. والبعد الديني لها يدخلها في عالم المقدس والمدنس، الحرام والحلال، الكفر والإيمان.

وبالتالي فهو يضع قطاعات واسعة خارج نطاق القدرة على التدخل. فمن أنت لتنتقد آية الله محمد علي تسخيري؟ وإن كان فهمي هويدي قد طعن في رأيه عندما انتقد الشيخ القرضاوي، فهل سيسمع أحد لما يقوله نادر فرجاني مثلا؟

ألم تصبح الهالة المحيطة ببعض رجال الدين من القوة بحيث نسمع فتوى بالقتل للعاملين في الفضائيات الفاسدة؟ فنتجنب إصدار بيان استنكار لها، وننتظر ضابطا سابقا في الجيش الإسرائيلي لينقل عبر “ميمري” رأي رجل دين سوري من جزيرة العرب بضرورة قتل ميكي ماوس والفئران الممقوتة والمفسدة؟

من المؤسف أن تتراجع السياسة ويغيب مفهوم الحوار. وأن يتراجع الفكر الديني لصالح خطاب أصولي منغلق على نفسه. لشحن مذهبي عاجز عن التجاوز، وتدخلات تشيد سور الصين بين الفرق والآراء الإسلامية، وتحدد قدرة المسلمين على تجديد المدارس الفقهية أو إعادة اكتشافها بشكل نقدي.

ما معنى أن يصل الأمر أحيانا إلى حد الاستباحة الثقافية والفكرية الرمزية لدم المذهب الآخر؟ يجري التعبير عن ذلك في التفوق الذاتي أولا، والتنقيب المجهري للإمساك بمثلب أو غلو أو انزياح عن الصراط المستقيم عند هذا أو ذاك.

من لطف الله بالبشر، أن الأمثلة التي انتقل فيها الصراع المذهبي إلى صراع دموي قليلة. وعندما حدث ذلك، والشاهد العراقي أمام الأعين، لم ينتصر أحد على أحد. أي كانت الهزيمة جماعية.

لن نتوقف طويلا في التعرض لقضايا تسيطر فيها الدولة على رجال الدين. لكن من حقنا أن نقول للسنة والشيعة وغيرهم إننا نعلم علم اليقين بأن الآراء والفتاوى ليست بريئة من المكان والزمان والمحيط.

نعلم أيضا أنها تخضع عادة لضغوط الحاكم أكثر منها لاحتياجات المحكوم. وإن كنا بالأساس مطعون بتدخلنا وبرأينا في منطق الحق والباطل من وجهة النظر المذهبية، فمن حقنا التطرق لموضوع جوهري اسمه حدود وقيود حرية التعبير والاعتقاد في العالم الإسلامي اليوم.

هل يقبل عالم علامة كبير في المذاهب الخمسة أن يفتح باب الاجتهاد لمذهب ينطلق من الأصول واحتياجات المسلمين في هذا العصر، رغم أنهم جميعهم يعتبرون الاجتهاد من أسس الإسلام: سواء المادة الثانية من الدستور الإيراني أو فتاوى كبار علماء المسلمين السنة؟ ذلك رغم أن القطاع الأكبر يقول إنه يحترم الاختلاف المذهبي كما هو حال المقطع الثاني من المادة 12 من الدستور الإيراني.

كرم الإسلام الإنسان ومنع الإكراه في المعتقد، ومع هذا يسود العالم الإسلامي منهج التلقي والطاعة، ويتمتع الراهب بالقداسة في دين لا رهبنة فيه؟ وتسود حالة ذهنية يصفها الصديق منصف المرزوقي بقوله: “علم الشيخ هو بالضرورة حقائق من النوع الذي يردده الوعاظ والفقهاء منذ قرون، سواء حصل ذلك في المساجد الريفية أو من أعلى منبر القنوات والبرامج الدينية المتكاثرة هذه الأيام.. “حقائق” لم تمنع أمتنا، لا من الانحطاط الأخلاقي ولا من التخلف الفكري ولا من التوحش السياسي.. معطيات لا يرقى لها الشك يسوقها لنا الشيخ العالم بكل ما يملك من طلاقة اللسان وقوة الحجة ليعلّمنا كل ما يجب علينا معرفته من شؤون ديننا ودنيانا.

لا غرابة ألا يسأل الشيخ أبدا ونادرا ما يتساءل. كيف يسأل وهو من يعرف كل الردود ومهمته تقتصر على إنارة الجهال والتائهين لأنه خلافا لهم ليس جاهلا أو تائها، وكيف يكون تائها أو حائرا وهو البوصلة التي تشير إلى اتجاه الجنة. خاصية مهمة أخرى لمنهج الشيخ: مواقف وتصرفات المتلقي أكان المحاور أو المستمع.

فكل ما في هذه التصرفات يوحي بالتسليم لصاحب السطوة. لا مكان هنا للمشاكسة، للمعاكسة، للتشكيك، للجدل. فالمواقف مبنية على الإنصات والاستيعاب ومحاولة الفهم لأن الخطأ ليس من عجز الأستاذ عن التبليغ وإنما دوما نتيجة البلادة الفطرية التي هي فينا.

هذا هو عالم السمع والطاعة لأولياء الأمر منا الذين قادونا طوال قرون طويلة على طريق الحرية وجعلوا منا فعلا خير أمة أخرجت للناس”.

ثقافة التلقي والإرضاء تخلق بيئة مستعدة لخوض كل المعارك المسطحة وكل الحروب غير المجدية التي لا ينتصر فيها أي طرف. يتملكنا الخوف على الذات والخوف من الذات والخوف من الآخر. وكأن هوركهايمر بيننا عندما تناول وظيفة اللاهوت والدين: “كان للعلوم الدينية وظيفة تسمح، بدون وجود بوليس كلّي القدرة وجيد التدرب، باحترام الإنسان للإنسان، على الأقل في نفس المجتمع، كذلك عدم ارتكاب الجرائم.

لقد كان للإيمان بالسماء والنار وظيفة اجتماعية كبرى، وما دام أغلب الناس من المؤمنين، فهم يتجنبون الشر لوجود عدالة أعلى. في الفترة المضطربة التي نعيشها، ثمة فقدان لهذه الوظيفة بشكل مطرد مثير للمخاوف”.

ليس من شك، في أن غياب مصر السياسية قد ترك بصماته واضحة في غياب هيبة مصر الأزهرية. وأن الفراغ الإستراتيجي السعودي قد أضعف المكانة الرمزية لأهل السنة، لكننا اليوم أمام معضلات سياسية وغياب إستراتيجي للدولتين أولا وأخيرا، وليس للبعد المذهبي قيمة تذكر في تقييم الوضع الإقليمي.

ولعل الحس الشعبي أكثر نضجا من أطروحات النخب السائدة فهو لا يعتمد الفروق المذهبية في تقييم الأشخاص وإنما مواقفهم (كراهية رموز الاحتلال من العراقيين كبيرة من الماء إلى الماء لتعاونهم مع الاحتلال الأميركي وليس لانتمائهم المذهبي. بعكس الاحترام الذي يتمتع به السيد حسن نصر الله مثلا).

يوما بعد يوم، يتأصل وعي جديد يقوم على فكرة مركزية تقول إن الآخر لا يمكن أن يكون، حتى في أحسن أحواله، كتلة بشرية متجانسة ومتماسكة تعبر عن الوحدة الأسطورية لأمة أو طائفة أو مذهب.

وأن الكلانية ظالمة بالضرورة (كل العرب.. كل السنة.. كل الشيعة.. كل الغربيين..). فها نحن أمام صهاريج ثقافية متعددة المشارب والمكونات، تضم كل عناصر الخضوع والثورة، التلقيح والعقم، التأثير والتأثر، التعبئة والانفجار العشوائي، القوة والضعف.. وبالتالي جميع عناصر تمزيق الكل الأصم غربيا كان أم إسلاميا، شيعيا أم سنيا، علمانيا أم دينيا.

في جمع كهذا، يصعب رصد عمليات التفاعل مع الآخر، من تصاهر القرابة إلى مصاهرة الرأي والكتابة. ولا بد من أن نقبل ليس فقط بفكرة اعتناق هذا المذهب أو ذاك بشكل حر، وإنما أيضا ولادة مدارس فقهية إسلامية جديدة.

فلا قداسة للشافعي وأبي حنيفة ومالك وابن حنبل في قرآن أو حديث. ولا معنى للوقوف على أطلال القرن العاشر للميلاد في تقرير المدرسة الفقهية الأنسب للرد

29-09-2008عن الجزيرة نت