أبريل 19, 2024

دور المنظمات الحقوقية في ملاحقة إسرائيل على انتهاكها للقانون الدولي

israelمحاضرة ألقيت في بيروت 05-10-2009 عن اسرائيل والقانون الدولي

 لمشاهدة المداخلة اضغط هنا

تقديم

شهدت الثمانينيات صراعات فكرية ونظرية حادة حول الفضاءات غير الحكومية وتعبيرٍ ترجَمْتُهُ للعربية في 1983 بالسلطة المضادةcontre pouvoir . فقد تهاوت في زمن قصير في الأوساط التقدمية فكرة اعتبار النقابات والجمعيات والنشاطات الأهلية أقمارا تدور في فلك حزب سياسي أو سلطة حاكمة، وصار الحديث عن فضاء غير حكومي بالغ وفاعل جزء لا يتجزأ من فكرة التغيير السياسي-المجتمعي، باعتبار إلغاء هذا الفضاء أو تأميمه يضرب في الصميم ليس فقط القدرة على لجم تعسف السلطة وجنوحاتها، مهما كانت الطبيعة الإيديولوجية لهذه السلطة، وإنما أيضا فكرة تجاوز الأوضاع. وقد أعددت ورقة حول دور المنظمات غير الحكومية في كالياري-إيطاليا ضمن التحضير لمؤتمر فيينا في 1993 اعتبرتُ فيها أن من المجحف اختزال تعبير السلطة المضادة بالقول هي حركة منفصلة عن السلطة أو ضد السلطة، لأنها في حقيقة واقعها المتنامي تتعدى في نضالها ورؤياها منطق السلطة إلى ما وراء مفاصلها وتفاصيلها، باعتبارنا نمارسُ، فكرا ونضالا، رياضةَ خلقِ شروط التغيير والتجاوز.

هذه الحركة العالمية وبكل أسف، لم تدخل العالم العربي من الباب الواسع في التسعينيات لأسباب عديدة منها حرب الخليج واتفاقيات أوسلو والحرب الأهلية الجزائرية وانغلاق الدكتاتوريات العربية على نفسها خوفا من الهزات التي أودت بمعسكر وارسوا ونظام الحزب الواحد في أوربة الشرقية والاتحاد السوفييتي. وحيثما استطاعت التخلص من المشكلات الموضوعية الوطنية، كان العديد من التشكيلات المدنية من الجيل الثالث لحركة حقوق الإنسان في عدة دول عربية ضحية نهج “المهنية المفرطة ومراكز الكادر الثابت” الأمريكي المنشأ والذي عزلها عن دورها المدني والشعبي وأبعدها عن الممارسة الديمقراطية.  ولم تكن الظروف أفضل في مطلع القرن الجديد حيث أرخت هجمات 11 سبتمبر 2001 لتراجع محافظ أعطى إيديولوجيات الخوف كل ما تحتاج إليه من فانطازيا وقوانين وأوضاع استثنائية عززت العنف وفكرة العدوان على حساب المقاومة المدنية الطامحة لجعل الأسئلة الوجودية الأهم، في الوضع البشري، تنال المكانة الذي تستحق. إلا أن تحضيرات الحرب على العراق سمحت ببناء تجمعات واسعة وتحركات مليونية مناهضة أعادت الروح للعناصر الأكثر دينامية وإخلاصا في الحركة الحقوقية العربية، وكان لاحتلال العراق أن ثبط العزائم من جديد لتعود محاولات الاستنفار من جديد مع العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006. اعتداء لم يسمح لنا الصراع السياسي الداخلي بأن نتحرك فيه على الصعيد الدولي وصعيد المحاسبة بالأشكال المطلوبة،  خاصة فيما يتعلق بالمحكمة الجنائية الدولية، فتم الإكتفاء بنوع من التحركات الرمزية داخل العالم العربي وخارجه.

في عدوانها على غزة، أرادت الحكومة الإسرائيلية، فيما أرادت، أن تعتصر آخر أيام إدارة بوش-شيني، وأن تستبق حالة إيجابية رافقت هزائم الإدارة الداخلية والخارجية وانهيار رموزها واحدا بعد الآخر وحركة مدنية مناهضة للسياسات التعسفية التي حكمت ما عرف بالحرب على الإرهاب. ولعل هذه اللحظة الانتقالية، هي التي تفسر التجاوب الكبير مع التحرك الذي باشرناه بادئ الأمر مع منظمات سياسية يسارية وراديكالية وتجمعات للجاليات العربية والإسلامية ومنظمات حقوقية عربية وأوربية ثم لم يلبث أن تحول لحركة مدنية مناهضة للسياسة العدوانية الإسرائيلية، ومطالبة ببرنامج شامل لمواجهة العدوانية المتصاعدة للسلطات الإسرائيلية في العلاقة مع الوجود الفلسطيني برمته وليس فقط “الحكومة المقالة” في غزة أو حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية.

لقد حاولت النواة الصلبة لهذا التحرك منذ البدء، الإستفادة من التجارب الأمريكية اللاتينية والآسيوية في التشبيك وفي تجاوز الصيغ التقليدية والشمالية لمنظمات حقوق الإنسان، وذلك عبر الربط بين حقوق الإنسان وحقوق الشعب الفلسطيني، وبين ما تم إقراره من مواثيق وما هو ضروري للتبني مثل مشروع اللجنة العربية لحقوق الإنسان لإعلان منع امتهان الشعوب بالعقوبات والحصار. مع الدفاع عن فكرة أمريكية لاتينية هامة تقوم على التحذير من التبعثر والمركزية الصارمة بآن معا. باعتبارهما مصدر خطرٍ على أية حملة مدنية عابرة للحدود. من هنا، ومنذ البدء عبرّنا عن ضرورة التشبيك وتعدد أشكال ووسائل وتعبيرات النضال من أجل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، لأن أي تحالف أو تجمع كبير، مهما كانت أهميته، لا يملك الحق في مصادرة أية مبادرة حقوقية ومجتمعية أو مَركَزَةِ كل عمليات البحث والتنقيب والتوثيق والنضال اليومي. فنحن بأمس الحاجة لبناء استراتيجيات عمل دينامية قادرة على مواجهة حيتان السلطتين السياسية والاقتصادية في العالم المتمترسين في جبهة المعتدي. ومهما كانت موازين القوى قاسية، من واجبنا باستمرار استحضار عبارة صموئيل بيكيت: “في هذا المكان، وفي هذه اللحظة، الإنسانية هي نحن، سواء أعجبنا أم لم يعجبنا ذلك؟”.

 طفولة الشيء

 في مطلع 2009 وفي خضم الحملة العدوانية العسكرية على قطاع غزة، تعززت ضرورة ولادة تجمع عالمي كبير قادر على إعطاء موضوع في غاية الأهمية هو موضوع الجرائم الجسيمة ما تأطر في القانون الدولي منها،  وما هو في طور التحديد (جرائم الحرب، جريمة العدوان، الجرائم ضد الإنسانية، الإبادة الجماعية..). لقد سبق وطرحت هذه الفكرة بقوة في تسعينيات القرن الماضي، إلا أن وجود تحالف من أجل محكمة جنائية دولية وعدة منظمات دولية تتابع قضايا العدالة الجنائية والعدالة الانتقالية وولادة منظمة العدالة العالمية في مطلع القرن، أعطى الإنطباع  بعدم وجود حاجة لكونفدرالية جديدة. وللأسف منذ اجتماع عدد هام من المنظمات غير الحكومية والشخصيات الحقوقية والخبراء في الذكرى الخمسين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان لتدارس هذا الموضوع وحتى صدور نداء المثقفين والحقوقيين العرب بعد عشر سنوات بالضبط في 12 ديسمبر 2008، شهد العالم تصاعدا كبيرا في وتيرة العنف والحروب بحيث صارت قضية جرائم الحرب أحد مؤشرات تراجع المدنية والحقوق والحريات على صعيد كوكبنا، بل أصبحت كلمة الحرب (من الحرب على الإرهاب إلى الحرب الأهلية) تنتج الحيز الأكبر من الضحايا وتلاحق ما تحقق من إنجازات في القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي وتعطي المبرر الذهني للتعايش مع انتهاكات حقوق الإنسان باسم السلام والأمن الدوليين.

لقد أعادت غزة القضية الفلسطينية إلى بعدها العالمي والإنساني. فقد تكالبت عدة عوامل، منها الحرب على الإرهاب وقيادة بوش-شيني للإدارة الأمريكية ثماني سنوات، والموقف الأوربي الرسمي المتطرف من فصائل المقاومة التي ترفض عملية أوسلو وتدهور العلاقات الفلسطينية-الفلسطينية منذ نجاح المقاومة الإسلامية في الانتخابات.. ساهم كل هذا في زعزعة الرصيد الذي بناه الشعب الفلسطيني وتعبيراته السياسية والمدنية على الصعيد العالمي. وكم من مظاهرة شاركنا بها ضد الحصار على غزة لم تتجاوز نسبة الأوربيين فيها الربع بل وأقل، بعد مظاهرات بمئات الآلاف من أجل فلسطين.  بهذا المعنى شكل العدوان على غزة الصدمة الكهربائية التي أعادت الأحرار إلى ضمائرهم والحيارى إلى تأييد الحق الفلسطيني في وجه الجرائم الإسرائيلية المستمرة منذ ستين عاما، بل وليفتح ملف غياب المحاسبة باعتباره في صلب المسؤولية الدولية عن استمرار الجرائم. استعادة العالمية هذه كانت أهم هدية للأطفال الضحايا الذين كان فقدانهم كفاحا من أجل التحرر الوطني الفلسطيني وعالميته.

تبلور استراتيجيات عمل

 العدوان، هذا المصطلح الذي كان من أولى مصطلحات القانون الدولي في الإسلام تعريفا، لم يجد حتى اليوم مستقرا له باعتبار الكلمة جزء من آليات إعادة رسم الخارطة الدولية للهيمنة هو، وليس الدفاع عن النفس والوقاية، من يجعل من الحرب وسيلة “مشروعة” من وسائل ممارسة السياسة بين الدول، ويجعل من منهجة الاعتداء على الآخر سبيلا لجرائم ضد الإنسانية ويصب بشكل أو بآخر في مستنقع اغتيال الأمن الإنساني والسلام الدولي.. هو الذي يحجم محاولات تعزيز العدالة على حساب فكرة القوة. وما من قوة أكبر من الذكاء الإنساني الجماعي لمواجهة فكرة العدوان والجرائم الجسيمة الدولية. هذا الذكاء المتمثل في تفريخ مجموعات ضغط مدنية واسعة قادرة على جعل الجريمة أشد شينا وقبحا بتعريتها وتفصيل وقائعها على الملأ، ووضع كل جهاز قضائي قوي أمام مسؤولياته في ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب ومرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية..

بهذا المعنى، غزة لم تعد حقوق ضحايا غزة فقط، ويمكن القول دون مبالغة أنها الصاعق من أجل إعادة النظر في أسلوب ونمط تعامل منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني على الصعيد العالمي مع الحقوق الفلسطينية أولا، وإمكانية أن يكون رفع صوت العدالة في فلسطين الوسيلة الأقوى لفتح كل ملفات المظلومين في العالم. من هنا كانت ضرورة استثمار الاستقطاب المدني العالمي الكبير من أجل غزة  لمأسسة تحالف دولي كبير لملاحقة مجرمي الحرب. أي الانتقال في خضم معركة محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين إلى بناء منظمة عالمية جديدة تغطي الفراغ المخجل في قضايا الجرائم الجسيمة.

ما معنى غياب المحاسبة في احتلال العراق؟ أين التوثيق والمتابعة في الجرائم التي ترتكب ضد المدنيين في أفغانستان وباكستان والصومال؟ في العدوان على لبنان في 2006؟ وفي الحرب الأهلية السيريلانكية.. لماذا تشكلت محكمة خاصة بجرائم الحرب في سيراليون ولم تطرح مجرد فكرة محكمة خاصة بجرائم الحرب في أفغانستان أو تناول الملف الأفغاني أمام المحكمة الجنائية الدولية؟ ألا يقوم العالم ولا يقعد لاعتقال معارض سياسي ويجري إغماض العين عن قتل مئات آلاف العراقيين؟

إن حركة المحاسبة التي تتسع أكثر فأكثر اليوم تعتبر حقوق الإنسان على مفترق طرق، وكما أمسك الإيرلندي بيتر بننسون بقضية الاعتقال السياسي في 1961 عندما أطلق صرخة تذكير بغياهب السجون، نحن بحاجة اليوم لصرخة عالمية ضد جرائم العدوان والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية.. مع تراجع وبقرطة التحالف الدولي من أجل محكمة جنائية دولية، نحن بحاجة لكل من يفكر ويناضل بدون حدود وبدون حسابات لبناء هيكل عالمي جديد يهدف للدفاع عن المدنية والعدالة في وجه التوحش وعنجهية القوة. ويمكننا اليوم أن نقول بثقة، بعد التحركات الشعبية في فلسطين والتضامن العربي والحقوقي العالمي من أجل إعادة تقرير غولدستون للتصويت، بعد قرار بالتأجيل تبع ضغوط أمريكية وإسرائيلية هائلة، أن التحرك الحقوقي من أجل المحاسبة ليس قضية نخبة، بل قضية الشعب الفلسطيني بكل مكوناته مع أحرار العالم المؤيدين لحقوقه الأساسية.

إن ظروف إعادة رسم موازين القوى على الصعيد العالمي تخلق وضعا صعبا وحساسا يبرز فيه التناقض بين ازدياد الوعي الحقوقي الجنائي الدولي من جهة وصيرورة آليات المحاسبة شرطا من شروط تحقق هذا الوعي في القضاء الوطني وفوق الوطني، الأمر الذي  يطلق العنان، بشكل مباشر أو غير مباشر، لأطراف قوية حريصة على تثبيط سيرورة بناء منظومة محاسبة دولية تنسجم مع حجم الإنجازات المعاصرة. ورغم كون العالم العربي من أكثر بلدان العالم حاجة لتطوير منظومته الجنائية الدولية، مازالت الحركة الحقوقية لدعم مفهوم المحاسبة في القانون الدولي ضعيفة ولم يصادق حتى اليوم على النظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية سوى الأردن وجيبوتي وجزر القمر، ويصعب الحديث عن اختصاص جنائي عالمي في غياب سلطة قضائية وطنية مستقلة بدرجة أو بأخرى. لذا، مازال الإفلات من العقاب بالمعنى الوطني والدولي قاعدة عامة.

لا بد من قواعد سليمة لأية محاسبة محلية أو دولية، ومن الضروري احترام حقوق أعداء الحقوق لكي تصبح هذه الحقوق القاسم المشترك الأعلى للناس، بضمان المحاكمة العادلة للجلاد كيلا تتحول الضحية إلى جلاد جديد. لا بد من امتلاك النظرة النقدية التي تسمح ببناء منظومة مرنة تتعلم من الخبرة الإنسانية وتطلق العنان باستمرار لكل فكرة خلاقة وممارسة أرقى ودرس جديد من دروس الحياة. لا بد من كونفدرالية دولية كبيرة تتبنى هذا البرنامج الطموح والضروري لتسريع وتيرة آليات المحاسبة بدل تثبيطها وتقهقرها أمام ضغوط الحكومات. دون أن تعني عملية البناء هذه، أي تأميم أو مصادرة لكل النشاطات الجماعية والخاصة التي تنشأ في كل مكان وظرف، لتصب في المجرى الكبير لنهر المحاسبة الذي وحده يمكن أن يعيد الثقة للضحايا بأهمية عدالة دولية ما زالت في عمر الصبا.

في خضم معركة شرسة مع أقوى مجموعات الضغط وأقلها أخلاقية وأكثرها شراسة، ظهرت أسماء هامة على السطح لأكثر من أربعين محاميا من جنسيات مختلفة، منظمات غير حكومية من كل القارات، وللأسف، لم تكن سهام الطعن فقط ممن يصنَّفُ عدوا طبيعيا لهذا المشروع. فقد تدخلت وبأشكال متعددة حكومات كما تبنت حكومات غربية برامج أوكلت أمرها لمنظمات حقوقية تحت الطلب. للأسف  تحركت العديد من الحكومات بعقلية مصلحة الحكومة لا الدفاع عن الضحايا، وعملت بالتالي على تعزيز المنعكس الشرطي التسلطي الذي يشكك بكل عمل غير حكومي. لا حاجة لاستعراض وسائل الترغيب والترهيب اليومية للضغط على محامين نرويجيين من أجل الإنسحاب، محاولة تخويف عدد من المحامين الفرنسيين، محاولة شراء من يمكن.. لكن هناك إصرار عند عدد هام من المحامين والمدافعين عن حقوق الإنسان على خوض هذه المعركة من أجل الانتقال بالعدالة الدولية من القرون الوسطى إلى الأزمنة الحديثة، أي جعل محاسبة كل مجرم حرب قضية ممكنة بغض النظر عن جنسيته ولونه ودينه ووضعه الاجتماعي. لقد زرعت محكمة نورنبرغ، رغم نقاط ضعفها البنيوية، فكرة المحكمة الجنائية فوق القومية، وتأتي قضية غزة، لتضع العالم أمام أكبر اختبار له مع نفسه:

         لقد ارتهن اعتراف الأمم المتحدة بدولة لليهود باعتراف هذه الدولة بدولة فلسطينية للعرب وعودة اللاجئين فأين نحن من هذا؟

         حتى اليوم، ورغم إقرار أكثر من نصف دول العالم بفلسطين كدولة، لم تراجع الفدرالية السويسرية نفسها في رفض طلب توقيع فلسطين على اتفاقيات جنيف الأربع، فهل يقترف أوكامبو الخطأ التاريخي نفسه فيرفض تصديق السلطة الفلسطينية على ميثاق روما؟  فيعيد المحكمة الجنائية الدولية إلى نقطة الصفر في الوعي الجماعي الجنوبي لفكرة العدالة الدولية؟

         لقد قام عدد من المحامين النرويجيين من التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب بتقديم دعوى قضائية على عشرة مجرمي حرب إسرائيليين، فهل تتراجع النرويج قانونيا وتكون ثالث دولة بعد بلجيكا وإسبانيا تتقهقر أمام سلطة صهيون، أم تنتصر العدالة الدولة من هذا البلد المعروف بعمق فكرة استقلال القضاء فيه. وهل تتبعها دول أخرى يحضّر التحالف الدولي هذه الأيام لتحركات قضائية فيها؟

         هل تنجح المنظمات غير الحكومية لحقوق الإنسان والمقاومة المدنية في إقامة جبهة عالمية قوية قادرة على الفعل رغم المقاومات الشرسة للبلدان الكبرى (الولايات المتحدة، روسيا والصين) لفكرة عدالة جنائية دولية قوية؟

الأسئلة كثيرة، ولكن ثمة ثوابت تسبق الإجابات المطلوبة، أول هذه الثوابت، يكمن في حقيقة أن موضوع الملاحقات القانونية الدولية لا يحتمل حكومة ولا تحتمله حكومة. لهذا كل من يفكر بالاعتماد على دولة يضيع وقته ووقتنا. فالثمن أغلى، لأن معارك الملاحقات القضائية الجنائية الدولية تجري في البلدان العريقة في سلطتها القضائية. نعم نحن نحارب في أوسلو ولاهاي وبرلين وباريس وجنيف، أي مدن غربية الإعلام فيها سلطة رابعة بمعنى الكلمة، وبالتالي لن ينجح أحد بمقاضاة تسيبني ليفني بمساعدات مالية من أحمدي نجاد أو القذاقي؟ رصيد الحركة الحقوقية التي تكون العمود الفقري للتحالف الدولي لملاقة مجرمي الحرب والمبادرات المشابهة اليوم  يكمن أولا في عمقها المدني  الاستقلالي وسمعتها هي أول رصيد لتجريم القتلة. وحده النضال النزيه والشفاف والمستقل، قادر على أن يحاسب ويرفع رأسه في وسط معادٍ عضويا. هذا النضال يسعى لإدخال غزة في نسيج التاريخ الجنائي المعاصر كما دخلت نورنبرغ. وبهذا الدخول، يصبح بوسع كل مظلوم في أقاصي الدنيا أن يطالب بالاقتصاص ممن ارتكب جريمة جسيمة بحقه.

لقد كان لقرار السلطات الفلسطينية (وزير العدل في الحكومة المقالة في غزة ووزير العدل في حكومة تصريف الأعمال في رام الله ورئيس المجلس التشريعي بالوكالة والفصائل الفلسطينية الأساسية).. كان لكل هؤلاء الفضل في تعزيز قوة أكثر من 450 منظمة ونقابة غير حكومية تمثل أكثر من ستة ملايين عضو، من أجل جعل محاسبة مجرمي الحرب الإسرائيليين، ليس فقط فكرة مقبولة في الوعي العام الغربي، بل شرطا واجب الوجود لخروج العدالة الدولية من شبه أمجادها الغربية المخجلة (نورنبرغ، كمحكمة عسكرية استثنائية فبركها الغالبون)، إلى ضرورة إنقاذ هذا المصطلح عبر مبدأ “عدالة واحدة للجميع”. وقد انطلقنا من اليوم الأول بفكرة تقول أن التحرك من أجل المحاسبة يتسع لجبهة كبيرة تشمل الفضاء الحكومي وبين الحكومي وغير الحكومي، من هنا اتصالنا بحكومات جنوب إفريقيا وبوليفيا ودول أوربية عديدة والمفوضية السامية لحقوق الإنسان والجامعة العربية إضافة إلى مد اليد والجسور لكل المبادرات الجدية.

وفي هذا الوضع التعبوي توصلت الكتلة الأكبر في المنظمات غير الحكومية  إلى تحديد نقاط أساسية للتحرك وقامت بنشاطات ومهمات أساسية ضمن هذا التصور منها:

– تنظيم نشاطات حقوقية وثقافية ونضالية تسمح باستمرار حالة التعبئة والدعم لوقف العدوان وآثاره والتعويض للضحايا ومحاسبة المجرمين. وقد نظمت التجمعات الفلسطينية والعربية والدولية والتحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب عدة ندوات في قصر الأمم بجنيف وفي فرنسا وبريطانيا وبلجيكا والدانمارك ناهيكم عن الندوات في البلدان العربية وتركيا. 

–  تنظيم بعثات تحقيق عربية ودولية وإعداد أكثر من خمسين تقريرا توثيقيا تشمل معظم جوانب العدوان ونتائجه

– استنهاض المحكمة الجنائية الدولية التي خسرت الأساسي من رصيدها في قضيتي العراق ولبنان، لكن بعدم تكرار الأخطاء التي وقعت من جانب الحقوقيين. لذا رافقنا وزير العدل علي خشان لأهم اجتماعاته مع المدعي العام، واتصلنا بالعديد من الدول المصدقة على نظام روما للمحكمة الجنائية (بوليفيا وفنزويلا وجنوب أفريقيا وكوستاريكا) من أجل تعزيز الطلب الفلسطيني أو رفده في الوقت المناسب بطلب من دولة عضو في المحكمة. ونشأ تعاون غير مسبوق بين الجامعة العربية والمنظمات غير الحكومية. ولا شك في أن عملية التوثيق الدقيقة والاستنفار الدائم ستضع المدعي العام ورئيس المحكمة أمام مفترق طرق، إما الاستمرار في سلبية اعتمدت حتى الآن على مبادرات الدول المصدقة أو مجلس الأمن، أو تشكيل غرفة ابتدائية Pretrial chamber تباشر التحقيق في الجرائم التي ارتكبت.

– التحرك لدى المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الجنائي العالمي، حيث يتحرك عدد كبير من المحامين من أكثر من عشر دول لتحويل مناطق الاصطياف ومعارض شراء السلاح للضباط الإسرائيليين إلى سجون محتملة.

– الدعاوى الفردية المتعلقة بمزدوجي الجنسية: هناك عدد من عائلات الضحايا يحملون الجنسية المزدوجة، بما يسمح بإقامة دعاوى قضائية في عدة دول أوروبية. وهناك أيضا سياسيون وعسكريون إسرائيليون يحملون جنسيات أوروبية تجيز للمحاكم الأوروبية ملاحقتهم. ونحن ندعم بكل قدراتنا الدعوى القضائية المقدمة بحق مزدوجي الجنسية من جنوب إفريقيا أمام المحكمة الجنائية الدولية كسابقة في هذا المجال.

– إقامة دعاوى للاعتداءات على أملاك أوروبية والمطالبة بالمحاسبة والتعويض وعلى حاملي جنسية أوربية وهناك دعوى بصدد الإعداد هذه الأيام بعد استكمال عناصر الادعاء.  

– المطالبة السياسية والقضائية بإلغاء اتفاق 8 ديسمبر/كانون الأول 2008 ووقف اتفاقيات الشراكة الأوروبية الإسرائيلية (الإتفاق مجمد الآن).

– تدخل لدى الدولة السويسرية الراعية لاتفاقيات جنيف.

– إقامة دعوى قضائية أمام محكمة العدل الأوروبية بحق لجنة المفوضية الأوروبية المختصة بقضايا الإرهاب لإعاقتها أساليب الحوار السلمية ووسائل التعاون مع الشعب الفلسطيني ومؤسساته المنتخبة، وذلك بتصنيف الفصائل الفلسطينية التي لا تعترف بإسرائيل على قائمة الإرهاب، في حين أنها لم تفعل الشيء نفسه ضد حزب الليكود الذي لا يعترف بفكرة دولة فلسطينية، أو حزب ليبرمان الذي يطالب بالترانسفير. خاصة بعد امتناع دول الاتحاد الأوربي عن التصويت لتشكيل بعثة تحقيق لمجلس حقوق الإنسان وتكرار المهزلة برفض التصويت على تقرير غولدستون.

هذه الحركية أوجدت أساسا جديدا لتعزيز وتقوية القضية الفلسطينية في العالم، أي فتح الباب لديناميكية هجومية للمجتمعات المدنية. ديناميكية تستثمر هزيمة التجربة البوشية لتعيد الاعتبار إلى حقوق الإنسان وقيم العدالة في المؤسسات الدولية -خاصة منها القضائية- بعد ستين عاما من المظالم والانتهاكات الجسيمة لحق الإنسان الفلسطيني.

هذا هو التحدي الذي يربط بين المنظمات الحقوقية وأهدافها المعلنة وجمهورها الطبيعي، ويعيد الجسور بين العربي والعالمي من جديد بعد أزمات خلقت مساحات رمادية واسعة في قاموس العدالة الدولية في الوعي الجماعي الشعبي.

المعركة شرسة وقاسية، ولكنها تستحق أن نفعل ما نستطيع لانتصار العدل على القوة، في قضية كانت القوة المحدد الأول لمجمل عناصرها، منذ أكثر من ستين عاما.

——————————————————– 

هيثم مناع: درس الطب والعلوم الاجتماعية والقانون، مؤلف أكثر من ثلاثين كتابا منها مستقبل حقوق الإنسان وموسوعة الإمعان في حقوق الإنسان، رئيس المكتب الدولي للجمعيات الإنسانية والخيرية، المتحدث باسم اللجنة العربية لحقوق الإنسان، منسق التحالف الدولي لملاحقة مجرمي الحرب ورئيس المعهد الاسكندنافي لحقوق الإنسان.