أبريل 19, 2024

وسائل التدخل لحماية الصحفيين ( دول، منظمات دولية، جماعات مسلحة)

pressلم يكن اختطاف مصطفى الديراني في 1994 أول عملية تقوم بها الأجهزة الإسرائيلية. لكنها كانت، حسب علمي، مناسبة لمواجهة مفتوحة بين نشطاء لحقوق الإنسان. فقد كانت الفدرالية الدولية لحقوق الإنسان قد أوفدت قبلها بعثة تحقيق إلى لبنان، شارك فيها فيها المحامي باتريك بودوان الأمين العام للفدرالية وقتئذ  والدكتورة فيوليت داغر عضو المكتب التنفيذي والمسئولة عن المشرق. حدث الخطف يوم موعد صدور بيان البعثة بنتائج التحقيق، فأضاف كلاهما للبيان الصحفي إدانة واضحة للعملية. ذلك انطلاقاً من أن الغاية لا تبرر الوسيلة وأن أية عملية اختطاف هي اعتداء خارج القانون على سلامة النفس والجسد وحرية الأشخاص. الأمر الذي جعل رئيس الفدرالية حينها، المحامي دانييل جاكوبي، يقيم الدنيا على كاتبة البيان. فالديراني بالنسبة له “إرهابي واختطاف إرهابي لا يختلف عن اعتقال مجرم”. ثم “إن لم يكن بوسع الدولة اللبنانية تصنيفه كذلك واعتقاله، فواجب أية دولة قانون قادرة على ذلك أن تمارسه”. لم يتطرق الطاقم الموالي لإسرائيل حسب ما أذكر، لا لظروف الاعتقال الرهيبة في المبنى 1391 ولا للتعذيب أو الاعتداء الجنسي على المختطف..

كان من الواضح وجود قراءتين لحقوق الإنسان: الأولى سياسية براغماتية تعتمد منطق الدولة La raison d’Etat والالتزام الإيديولوجي المسبق، أما القراءة الثانية فتنطلق من القانون الدولي لحقوق الإنسان والعرف والقانون الإنساني الدولي. ولعل الخلل الأساسي قد جاء من التناقض الجوهري بين ملهمي القانون الدولي الأوائل (وأغلبيتهم في الأساس من أوربة والولايات المتحدة قبل اجتياح مناطق العالم الأخرى لهذا الحقل)،  وبناة الحضارة الغربية المتفوقة ماديا، بكل ما يترتب على التفوق من التفكير بمنطق مركزي أوربي ثم مركزي أمريكي مع القبول الضمني بالممارسة القائمة على مبدأ “البؤس للضعيف والمغلوب”.

آخر فصول القصة، كانت في مباحثات غير مباشرة بين حزب الله (المصنف إرهابيا) وحكومة آرييل شارون (المتهم بجرائم حرب) أدت للإفراج عن عدد كبير من المعتقلين منهم الديراني. ذلك تحت أنظار صليب أحمر اكتفى بنقل الرسائل ومنظمات حقوقية شجبت أو صمتت.

أبدأ بهذا المثل لغرض تفكيك مفهوم ستاتيكي عن الوسائل القانونية، دولية كانت أو محلية، للحماية. وللقول بأن هناك بالتأكيد جملة وسائل غير نمطية يمكن أن تتدخل لتغطية نقاط الضعف الكبيرة في قضية حماية المدنيين في زمن الحرب والسلم.

يمكن أيضا، على سبيل المثال لا الحصر، ذكر ظاهرة خطف الطائرات. تعود جذور هذه الظاهرة إلى عام 1950 عندما جرت عدة محاولات خطف طائرات نجحت ثلاث عمليات منها. كانت الدول هي الملهم الأول حين اختطفت الأجهزة الفرنسية طائرة ركاب تحمل قياديي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. لم تثر تلك العمليات أي اهتمام آنذاك، خاصة وأن السنوات التالية لم تشهد محاولات مثيلة. لكن بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة كانت مؤشر لازدهار هذه الظاهرة. ففي عام 1960 وقعت سبع عمليات، وفي 1961 ارتفع الرقم إلى عشرة، بحيث بلغ في نهاية 1969 ما مجموعه 164 عملية خطف للطائرات المدنية، نجح منها 144 عملية كلها تمت من أطراف غير إسلامية. عقب ذلك كان لا بد من انتظار عشر سنوات لاتهام مجموعة إسلامية باحتمال المشاركة في خطف طائرة.

كانت عمليات الخطف حكومية وغير حكومية، ممدوحة ومذمومة. ولم يكن هناك موقف صارم منها. يبرِّر المخرج اليهودي “جولان”، في فيلمه “الهروب إلى الشمس” 1972، اختطاف اليهود طائرة للهرب من الاتحاد السوفييتي. لكن الفيلم بدلاً من أن يجعل وجهة المختطفين السويد – كما في الحادثة الحقيقية – يستبدلها بالدولة العبرية، باعتبارها الشمس المشرقة على العالم. كذلك بررت الحركات الثورية اليسارية اختطاف الطائرات باعتبارها الوسيلة الوحيدة لكسر الحصار الإعلامي على قضاياها. وليس من الغريب في أيام الحرب الباردة التعامل مع من يذهب للمعسكر الآخر باعتباره التحق بمعسكر الحرية (الناتو) أو الاشتراكية (وارسو). الأمر الذي ترجم في أول نص خاص بخطف الطائرات (اتفاقية طوكيو) الذي تم التوقيع عليه في 14 سبتمبر عام 1963 وأصبح ساري المفعول في 4 ديسمبر 1963 بعد أن صادقت عليه 12 دولة فقط.

لكن هذه الاتفاقية بقيت قاصرة وغير كافية لحماية الطائرات والأشخاص، بحيث وصفتها الدول والهيئات بين الحكومية بأنها “تحصيل حاصل”. فهي تنص مثلاً على ضرورة “أن تلتزم الدولة الموقعة بأن تسمح للطائرة المختطفة، إذا تم إنقاذها من الخاطفين على أرضها، باستمرار الرحلة في أقرب وقت ممكن وإعادة الطائرة وما تحمله من أمتعة إلى من يحق لهم ملكيتها”. وهو ما يحدث عادة، إذ ما أن يتم تخليص الطائرة من حالة الاختطاف وهي على أرض المطار حتى يسمح لها بمتابعة الرحلة إلى بلدها. ولم يحدث أن حجزت دولة على طائرة مختطفة من قبل أشخاص مهما كانت حالة العداء ما بين الدولة صاحبة الطائرة وتلك التي يقصدها الخاطفون. كذلك تربط إجراءات العقوبة بسيادة الدولة على أراضيها وقوانينها المحلية.  لذا كان من الضروري تجاوز هذا القصور القانوني، عبر معركة كبيرة خاضها المدافعون عن الأشخاص ومصالح شركات الطيران والتأمين والمستهلكين أكثر منه ممثلي الدول، من أجل التوصل إلى حماية أفضل في حالات اختطاف الطائرات.

لكن يبقى الأساس في أن المنتج الأكبر للخروج على القانون ليس بالضرورة العنصر الأضعف في الصراع. وأن الحد الأدنى لاحترام الحقوق والقانون الدولي هو الذي يصنع  الرأي العام الرافض لممارسة العنف. وأن إزمان انتهاك القانون من طرف يحوّل الانتهاك إلى وباء عام. فالتكالب على الثروة والسلطان يخلق الظروف الموضوعية للوسائل غير العقلانية والرد فعلية للرفض. فلماذا ينتظر المعتدي تمجيد عدوانه، والقاتل احترام فعلته؟ ولماذا يقبل الناس باسترقاق الآلة العسكرية أو المالية من أي طرف جاءت؟ هل في منطق الأشياء توزيع الورود على من يضرب على شعب الذلة المسكنة؟ في وقفة وجدانية، يقول هيجل: “يوجد ما يحملنا على الاعتقاد بأن في النوع الإنساني حركة أعمق تشمل سائر الحركات الأخرى وتعدلها، تلك هي الحركة التي تتجه صوب الحرية والعدالة”.

الكلمة، كما هو الفعل، مسئولية. والكلمة القادرة على مخاطبة كل الثقافات واللغات بأمانة وصدق هي الأكثر انسجاما مع النفس واحتراما للآخر. كذلك لا يمكن لمنهج الإرضاء والاسترضاء أن يبني قيما إنسانية كبرى. لذا، نستغرب من بعض الكتّاب الغربيين والعرب المتغربين التوقف كثيرا عند أشكال العنف الإسلامية الزي وهم أنفسهم كانوا مع حرب العصابات الماركسية اللون وحروب التحرير القومية الهوية. هل يوجد إجماع ماركسي حول تعريف الإرهاب؟ وهل يوجد تعريف متماسك لمشروعية العنف عند الليبراليين؟

قرأت لوضاح شرارة مقالة في الموضوع يقول فيها وحديثه عن الإسلاميين: “المُفتون لا يريدون صرم روابط قوية بينهم وبين من يتحفظون عن بعض أعمالهم اليوم ويتشاركون وإياهم في أسماء كثيرة ربما. فإسناد الرأي الظرفي والجزئي إلى اعتبارات ظرفية والتوسل بالرأي هذا إلى “تبرئة” راية مشتركة ظللت مقالات واحدة ولا تزال تظللها، لا يُخرجان من ذرائعية آنية ومبتسرة، ويقصّران عن النهوض بتبعات البراءة المنشودة والمتوخاة، ويرعيان اشتباهاً مهد الطريق إلى ما يتظاهر المتصدون للفتوى بالتنصل منه”.

هذا الكلام صحيح جدا ويصح على الجميع: الحكومة الإسرائيلية والإدارة الأمريكية والتطرف الديني كما العلماني. فالعنف غير مرفوض من حيث المبدأ من أهم التيارات الإيديولوجية في العالم. والمحافظون الجدد لا يحملون راية المهاتما غاندي وهم يطالبون بزيادة أسطورية لموازنة التسلح. لم يدينوا حلبجة إلا يوم أصبح ذلك ضرورة آنية ذرائعية. وألقوا جماهير جنوب العراق في شارع التمرد ثم استغنوا عنها. وإن كان “العنف الأعمى” يصدر غالبا عن مجموعات يائسة ليس لديها ما تخسره، فالعنف المنظم يصدر عن أجهزة تسيطر على أوضاع العالم.

من هنا، كانت مؤسسات العنف المنظّم في السياسة الغربية قابلة لعقد الصفقات وشريكة في مساومات مع الجماعات التي تحرم التواصل معها وتضعها على قائمة الإرهاب. ليس أدل على ذلك من مباحثاتها مع “منظمة مجاهدي خلق”. من جهة تصنّفها إرهابية، ومن جهة أخرى تجعل من نشاطاتها ورقة قابلة للاستخدام. أكثر من وعي هذه الحقيقة هي الجماعة المتهمة نفسها، حيث ترفض الدخول في منطق الآخر وترفض التوظيف مقابل الخروج من قمقم التهمة. كذلك الحال مع حزب الله في لبنان. حيث تدرك الإدارة الأمريكية أن نسبة الأصوات المؤيدة لها في المجتمع الأمريكي أقل من نسبة الأصوات المؤيدة له في لبنان.

لذا، يمكن القول أن وسائل حماية الأشخاص المدنيين، وموضوعنا اليوم العاملين في الإعلام منهم، ليست ابنة قوانين الصحافة المتأخرة بشكل عام في بلداننا عن ثورة الاتصالات وتقدم التشريعات. بل هي ابنة ظروف وعوامل متعددة.

قبل خمسة أعوام، قرر الصحفي التونسي توفيق بن بريك الإضراب عن الطعام في صحراء عارية قاحلة. كان الأمن ضده ومجلة الصحافة ضده وقطاع من المجتمع لا يعرفه.. وضع توفيق خطة عمل تليق بعالم رياضيات أكثر مما هو مألوف عن شاعر. أراده إضراب حتى الموت أو التعريف بمحنة الكتابة وحرية التعبير في بلده. واستطاع أن ينجح في مطالبه العادلة. كنت بجواره في مشفى السالبتريير عندما قال لي: “صحيح أنا أمارس آخر أسلوب سلمي للدفاع عن النفس: إضراب الجوع، لكنه ليس الأضعف”. حماية توفيق جاءت من تصميم ذاتي كبير على كسر حلقة القمع المغلقة، كذلك من الحملة التي تضامنت معه داخل وخارج تونس. هذه الحملة كانت أقوى من عورة القوانين المفرغة من محتواها والرقابة اللصيقة. وهذا المثل يعطي صورة عن شكل دينامي ومتحرك للحماية لا يخضع لمعطيات “موضوعية” غير ملائمة. ولا يخضع لغياب أشكال الحماية الفعلية عند السلطات الثلاث المفترض فيها تنظيم الحريات الأساسية وسلامة الأشخاص.

حتى اليوم، لم يحصل الصحفي على أية حماية متميزة. على العكس من ذلك، هناك نوع من التركيز عليه كنتيجة طبيعية للطابع المشهدي للمجتمع البشري المعاصر وثورة الاتصالات. وقد باشرت منظمات حماية الصحفيين وحقوق الإنسان التحرك من أجل إعلان يضم ثلاثية الحماية والمحاسبة والتعويضات. ذلك في تعزيز للمادة 85 من البروتوكول الملحق الأول لاتفاقيات جنيف. في حين أن المنطلق الأساسي للحماية أو الدفاع عن الصحفي في بلدان الشمال يعتمد على تدخل حكومة كل بلد لضمان سلامة مواطنيه. بالتالي، أصبح الطبيب والصحفي ورجل الأعمال موضوع تدخل بالوسائل نفسها من قبل نفس الحكومة. هذه الوسائل تختلف باختلاف الظروف ونوع المصاب (اختطاف، اعتقال، منع من السفر، تهديد..). وهي تتأرجح من التباحث مع الحكومات المارقة إلى الجماعات المتطرفة. في هذه المباحثات، يمكن القول أن الحكومات تستخدم عدة وسائل ليس الطرف الدبلوماسي الأهم فيها. وهي تعتمد على أجهزة مخابراتها الخارجية وعلى أشخاص يعرفون البلد ولديهم مداخلهم الضرورية، حكومية كانت أو غير حكومية.

ما هو الموقف من موضوع الاتصال بجماعة خاطفة أو حكومة دكتاتورية؟ هل يشكل هذا الاتصال بالفعل اعترافا بالفعلة والفاعل والأطراف التي يتم الاتصال بها؟ هل الموقف الإسرائيلي المعلن القائم على رفض أي شكل من أشكال التفاوض مع الجماعات المسلحة هو الأفضل؟ أم أن هذا الموقف لا يعبر عن حقيقة الأمور، أي التفاوض كلما كان من المستحيل التدخل عسكريا؟

نحن نعتقد بأن المباحثات لا تعني الاعتراف أو القبول بمنطق الآخر. إنما هي وسيلة من وسائل حماية الأشخاص في أوضاع غير عادية تتطلب تدخلات غير عادية. وإن كانت الدول تتدخل للإفراج عن ضابط مخابرات لها في دولة عدوة، فمن الأجدر بها أن تتدخل من أجل حياة مواطن من مواطنيها يقوم بعمله بإخلاص في ظروف صعبة وخطيرة. ولعل في ردود الفعل العفوية والسياسية للتدخل الإيطالي لإنقاذ حياة الصحفية جوليانا سغرينا ما يعطي صورة عن الحس العام، داخل وخارج إيطاليا. هذا الحس المؤيد لمباحثات تنقذ حياة الصحفية، مع إدانة عالمية للموقف الأمريكي الذي أودى بحياة ضابط أمن إيطالي وكاد يقضي على الصحفية. باستثناء موقف وزير “حقوق الإنسان” في حكومة إياد علاوي، الموظّف لمناسبة كهذه، لم نسمع تبرئة واحدة للسلوك الأمريكي. هنا نتذكر مأثورة عمانوئيل كانت: “إن العمل لا يكون أخلاقيا إلا إذا أمكن إقراره بالتطبيق العام كقانون عام، أي كقانون يحظى بالقبول الحر من الجنس البشري كله”.

من هنا نفهم سبب تدخل نشطاء حقوق الإنسان لوقف اختطاف الصحفيين والمدنيين، للإفراج عن معتقلين أو كشف مصير مفقودين. هذا التدخل لا يعني تبني أو تواطؤ أو قبول ضمني بالأسلوب المتبع من جماعة أو حكومة. وإنما هو ببساطة احترام لمبدأ عالمي وقرآني يقول بأن من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا (المائدة 32).

ورقة مقدمة إلى ندوة وسائل حماية الصحفيين، القاهرة 24/3/2005  التي تنظمها اللجنة الدولية للدفاع عن تيسير علوني.