أبريل 20, 2024

الثورة أم الحرب في بلاد الشام

1_1078454_1_34كلما اشتدت وطأة الضربة الأمنية العسكرية على الحركة المدنية الاجتماعية السلمية في سورية يعود السؤال عن المواجهة العسكرية بين القامع والمقموع إلى السطح.
سألت العديد من الشباب في مدينة القصرين التونسية: لماذا دافعتم عن سلمية الثورة، أجاب أكبرهم عمرا: “ماذا جنت الجزائر من القتال، وهل لدينا من الإمكانيات ما يسمح بتحطيم الثروتين : الإنسانية والطبيعية؟” وأجاب أصغرهم: “حرب العراق والحرب على الإرهاب جعلتنا نكره كل حرب، لا نريد الموت حبا بالموت، لا نريد القتل مهما كانت الغاية من القتل، لا يوجد قتل، يوجد جريمة قتل”.
الشباب الذين صرخوا “سلمية” في درعا جنوبي سورية رفضوا أية صيغة عنيفة بما في ذلك عنف الكلمات. الذين كتبوا على جدران العمري “لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك”، الذين قالوا في داريا “سلمية سلمية لو قتلوا كل يوم مية”، الذين هتفوا في دوما “إن لجأت للسلاح فلديهم الكثير منه” وحملوا يافطة في حمص عليها “المستبد يقتل والحر يصنع الحياة”، هؤلاء هم من وضع الأسس الصلبة لانتفاضة الكرامة، الأسس الرافضة للعنف والطائفية والتدخل الأجنبي، الأسس التي تعتبر البناء المدني الديمقراطي الأمل الوحيد للقضاء على الدكتاتورية.
مثلت الدكتاتورية السلطة السوداء بكل المعاني، لإنتاجها الواسع للإنسداد والاستعصاء الذهني في حياة المجتمعات باعتبارها مادة إلغاء للمبادرة والحوار والتشارك والتفاعل والتضامن والتعارف في حياة الجماعة. وقد تضخمت أضرارها منذ أضيف إلى مبرراتها القديمة كالحرب والكوارث والأزمات، سلاح الدفاع عن إيديولوجية محددة. لم تعد الدكتاتورية مذاك شكلا صفيقا لممارسة العسف، فقد ألبست الشعارات الممارسات الدكتاتورية ثوبا مزخرشا يضع على ظهر كل ضحية للتعذيب أو القتل أو التنكيل بطاقة كتب عليها: خائن، كافر، مرتد، عميل، متآمر.. ورغم كل أجهزة الدعاية الضرورية لاستمرارها، لا يمكن للدكتاتورية الاستمرار طويلا إلا بمنطق الظروف الاستثنائية والحرب.
لم يكن من الغريب أن يكون أول محركي آلة الحرب في وجه الحركة الثورية العربية معمر القذافي، فقد جمع من بين أقرانه بين كل صفات الدكتاتور المعاصر، القائد، الزعيم المفكر والمنظر لبلده والإنسانية. وقد كان لحالة الإغتيال المدني والفقر السياسي الهائل التي خلقها ما جعل الإنزياح نحو الحرب قدرا سريع التحقق في ظروف الدفاع عن البقاء لمن ثار على سلطته. أما في اليمن، فرغم حرب صعدة، ووجود السلاح في كل منزل، وتوجه تنظيم القاعدة من كامل أصقاع الجزيرة العربية لجنوبها، إلا أن التيار الأقوى في الحراك اليمني ما زال يعتقد بفضائل التحول السلمي ويخشى مخاطر انزلاقات الحرب. في سورية، رغم إلغاء معظم أشكال الوساطة السلمية بين السلطة التسلطية والمجتمع في الأربعين عاما الأخيرة، فشلت السلطة التسلطية الأمنية في بناء حاضنة اجتماعية للعنف تسمح برد فعلٍ تلقائي على اعتداءاتها المتوحشة على المواطنين. ولعل ما يحدث في سورية اليوم يشكل الإختبار الأكبر للحركة الثورية العربية برمتها: هل بالإمكان تحجيم قانون نيوتن القائل بأن لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الإتجاه عبر النضال الواعي الناضج القادر على هزيمة قرار السلطة الأمنية بجعل الحرب استراتيجية المواجهة لها مع الحركة المدنية للتغيير في سورية؟
منذ دخول القوات الخاصة إلى درعا بعد شهر ونيف من انتفاضة الكرامة اتضح للقاصي والداني أن سياسة السلطة في مواجهة المجتمع تقوم على فكرة الحرب التقليدية و/أو الأهلية. لذا فهي تعتمد منطق الحرب وأساليبها: الكذب، الخداع، شل قدرات العدو، قتل كوادره الواعية أو اعتقالها، شيطنته، تزوير الأحداث والصور، إثارة العصبيات العضوية والنزعات الغرائزية عند المتقاتلين، حرمان المواطن من الطمأنينة بربط أمنه بأمن السلطة التي ثار عليها..
ومن أهم وسائل الحرب، القدرة على جر الطرف الآخر لمنطق الحرب، بحيث يتسرب خطاب الخداع والكذب والمبالغة وثنائية الخير والشر إلى خطاب الثوار أو الإعلام الذي يعبر عن طموحاتهم. ويسود في الفضاء الإعلامي كل ما يعطي الأفضلية للتمثيل على الواقع والنسخة على الأصل والظاهر على الكائن.. هنا يسقط المقموع وإعلامه في فخ القامع، وتنتهي مهمة المعرفة الإعلامية وينغمس الجميع في عملية خداع عامة تسمح باستمرار التسلط مع تغيير تماثيله وأصنامه.
من نافل القول أن كل من يؤثر الحرب على الثورة والدعاية على التأمل والتعبئة على استعادة الوعي، يشارك بإدراك أو بدون إدراك، في استمرار الدكتاتورية. فالدكتاتورية ليست بن علي أو مبارك أو القذافي أو الأسد أو الصالح إلخ، الدكتاتورية منظومة تفرز ممثليها وتضغط من أجل جعل خياراتها خيارات شعبية بالرضا أو بالإكراه. كل الإنقلابات العسكرية تبدأ بإعلان حالة الطوارئ في البلاغ الأول لأنها منطقها يقوم على إلغاء الشرعية الشعبية، وكل تغييرات القشرة تحرص على أن يعاد إنتاج النظام القديم بأقل الخسائر لكل من يستفيد من المنظومة السائدة.
هل تحتمل الأوضاع العربية ثورة ديمقراطية مدنية ناجحة؟ وهل لهذه الثورة حلفاء وأنصار؟
الثورات كالأرواح في الحديث الشريف جند مجندة، ما توافق منها أتلف وما تنافر منها اختلف.. من هنا تقتنبس الشعوب من تجارب الشعوب وتغتني بها.. الثورة تعثر على بصماتها عند من خاض الصراع نفسه من أجل الحرية، ولا يمكن ولا يجوز لثوارها اختزال تجربة أو بلد بموقف حكامه. توقفت كثيرا عند مدى استيعاب بعض مبادرات العالم الإفتراضي كتلك المتعلقة بنداءات المقاطعة من شباب سوريين لدول مثل جنوب إفريقيا والهند والبرازيل وفنزويلا.. كيف يمكن أن نتحدث عن استيعاب عندهم لمعنى الثورة؟ هل يمكن القول أن حكومات مغرقة في الظلم لشعوب أخرى يمكن أن تكون قدوة للتحرر في سورية مثلا؟ عندما تختزل العلاقة بالدول ووسائل الإعلام والأشخاص بموقف أو بتصريح، هل يمكن الرد بالقول “الشباب دائما على حق” و “كن ضد السلطة وقل ما تريد”؟
عندما يتم تجييش جماعات غير قليلة في حرب مذهبية لا ناقة للشعب السوري فيها ولا جمل، عندما يراد لثورة شعبية أن تقوم بحرب بالوكالة على هذا القطب الإقليمي أو ذاك، ألسنا بصدد الإنزلاق من الثورة لمنطق الحرب الذي تريد السلطة الأمنية أن نسقط به؟
عندما تتوقف عملية إنتاج التصورات السياسية لحقبة الإنتقال وتصبح عملية العنف اللفظي عملة رائجة في الشارع وتبدأ عملية هضم التسلح بفوج الضباط الأحرار حينا والدفاع الذاتي عن النفس أحيانا أخرى هل يمكن المحافظة على الطابع السلمي المدني للثورة أم أن الأمور قد تفلت من عقالها؟
هذه أمثلة بسيطة لما يمكن تسميته سقوط الضحية في منطق جلادها، ومساهمتها بالتالي في إطالة عمره، كونها تتوقف عن دورها الطبيعي كقوة جاذبة للأغلبية الأهم في المجتمع، أغلبية أهل المواطنة.
في الحرب يكون كلا الطرفين على حق، فالحرب في المنظار الذاتي دائما مقدسة والآخر لا يمكن إلا أن ينتسب للمدنس. الحرب تقضي على محاولات الثورة تمزيق الأخلاق الاستبدادية والسلوكيات المنقوعة بالفساد وخطاب الأمانة والشفافية والصدق، الحرب هي الوسيلة الأفضل لحصر التغيير في القشرة، وهي العدو الأكبر للثورة، كمشروع مواجهة مباشرة مع قوى التكييف وقوة الرياء والإنسان المزيف والموظف في خدمة سلطة قمع القدرات والمبادرات.. لا يمكن لاغتيال الثورة في منطق الحرب أن يتم دون تظافر كل قوى الإرتداد، أي الهزيمة المؤقتة للثورة لحساب الخطاب الدعائي الذي يصبو إلى إرجاع القليل من الحياة لأساطير تلفظ آخر أنفاسها.
في الحرب تلاحق الدكتاتورية أكثر العقول ذكاء والنفوس إباء لكي تبعدها عن الجموع الثائرة كي لا تكون نبراسها الدينامي والكارزمي. الحرب لا تتعدى بمنطقها زراعة الفجل، في حين تقوم الثورة بزراعة النخل. الحرب قد تكون خاطفة أما الثورة فالزمن فيها مادة إنضاج وعطاء وخصب وروح المتابعة مدرسة متكاملة لمجتمع جديد.
رغم الإفتراق الجوهري بين الحرب والثورة، تبقى التخوم في عدة أوضاع واهية على أرض الواقع. ويمكن القول أن البروباغندا تشكل المصعد، العتلة التي تعمل على انزياح حالة البشر المطالبة بالحرية إلى تجييش فارغ وأرعن يُختزل في الغيظ والحقد الدفين العميق والنوازع الغريزية.. هذا التوجه يقتل إبداعات الثورة في أتون إيديولوجيات ظلامية مسبقة الصنع تعطي الطمأنينة لكل ما يتعلق بالموت، وتقتل الإكتشاف والقدرة على الرد الإبداعي على الأوضاع في سيرورة خطيرة اسمها التسيير العقائدي الآلي.
لا يوجد بين المرشحين المحتملين لدفع ضريبة الحرب المالية طرفا ديمقراطيا واحدا. كلهم ينتمون لمعسكر العالم القديم والقيم القديمة والنظم البالية في تسلطها وتخلفها.
كما أنه لم يكن في المجتمع السوري عشية انتفاضة الكرامة حاضنة للعنف، فقد بدأنا نسمع هكذا خطاب من حزب المستعجلين خارج البلاد، المتأثرين بالأنموذج الليبي، الذي لم يعد بعد 25 ألف قتيل يشكل مصدر استلهام لأحد من المحيط إلى الخليج. لذا وكما نلاحظ في المتابعة المجهرية لكل من يتحدث في الرد العنيف على جريمة العنف السلطوية غياب وضوح الرؤية السياسية بل أية منطلقات استراتيجية لتغيير ديمقراطي، ولعلهم يشكلون الطرف الأكثر استجابة لمشهد الضرورة الإعلامية القائم على التجييش، تجييش صار يسبق في أيامنا ليس فقط الخطاب المدني والسياسي بل أيضا الواقع ومتطلباته الفعلية. وليس من الغريب أن نسمع في منطق العديد منهم استحضارا لعقلية الحقد والثأر والإنتقام إن كانوا وراء الحدود أو داخلها، وهم بالأمثلة التي قدموها للقتل، على قلتها، لا يفترقون كثيرا عن أخلاق الدكتاتورية التي أنجبتهم في رحم التسلط الذي ينتزع الأنسنة من أي صراع مسلح بين مكونات المجتمع الواحد.. ورغم أن احتمالات الحرب في صدر الثورة مازالت لا تقل عن احتمالات انتصار الثورة على الحرب، لن يكون تأريخ نقاط الإتصال والإنفصال بين الحرب والثورة ممكنا، بسبب العنف المنهجي للدكتاتورية والنفاق الجماعي عند من يريد مناهضتها بوسائل غير سلمية.
ليس من الممكن أن يتعامل إنسان صاحب ضمير مع ما حدث في حماه ودير الزور وريف دمشق ومحافظة درعا ومحافظة حمص وإدلب ومدن الساحل بدم بارد ورضوخ مستسلم لقدرٍ لا يعفي منه حذر، لكن تراجيديا الثورة تكمن في دفع جيل لأثمان باهظة من أجل حرية وكرامة أجيال، وأن يحتفظ الثوار بقدر عال من المسؤولية ينصبهم موضوعيا لتشكيل صمام أمان المستقبل باعتبار أن الوطن يستعين بهم ولا يستعينون عليه.
لا يمكن الخروج من التصحر السياسي والفساد الاقتصادي والتحلل الاجتماعي والتراجع الثقافي دون هزة أرضية وجدانية تمس العقول والقلوب ولا تقبل بأقل من القطيعة مع الماضي أساسا لبناء الحاضر والمستقبل. الثورة في وضع كهذا تنتمي لإنسانية النحن، هي فعل التجاوز للعلاقات العضوية والعصبية والترجمة اليومية لمواطنية الأشخاص وسيادة الدولة. لا يمكن لأي ثورة معاصرة أن تستحق اسمها عندما تلجأ إلى الإلغاء الضمني لأهم أركان مشاريع الحداثة المعاصرة غير المنجزة.
الثورة هي طموح إعادة بناء إنسان التنوير في الحقبة المعاشة، هي النهضة للأمة والنهوض للإنسان والبناء الأرقى للمؤسسات القادرة على ترجمة علاقة متقدمة بين الشخص والمجتمع والدولة
.

عن الجزيرة نت 09-08-2011