أبريل 19, 2024

مسلمات أوروبا بين النقاب والحجاب والحشمة

niqab1لم أشعر يوما بالتعاطف مع وزير الخارجية البريطاني السابق، وأقول بكل صدق إنني أشعر بهذا المسؤول وصوليا قادرا على تحطيم من يختلف معه في معارك ليست بالضرورة أخلاقية.

إلا أن الزوبعة التي خلقتها تصريحاته الأخيرة حول النقاب، وبغض النظر عن الانزعاج الذي يسببه له التحدث مع شخص لا يرى وجهه، تطرح إشكالية أساسية على ثلاثة أصعدة:

– احترام الهوية الفردية في الإسلام
– مفهوم حقوق الأشخاص
– تصورات المجتمع الأوروبي لقضية المرأة

خاصة أن هذه الملاحظة تأتي من مسئول في بلد يمكن القول إنه الأكثر تفهما لحق الاختلاف الثقافي والديني في أوروبا في القوانين والممارسات.

ما يساعدنا على التحدث بأريحية أكبر هو أن الردود على هذه التصريحات لم تكن من جماعة مكونة ضد أخرى، فقد جاء النقد من بريطانيين غير مسلمين ومسلمين، وكذلك كان حال من يتفهمها.

فقد وصف رئيس القسم السياسي بحزب المحافظين أوليفر ليتوين هذه التصريحات بـ”المبدأ الخطير لإرشاد الناس في كيفية ملبسهم”، وانتقدها رئيس حزب الديمقراطيين الأحرار، سايمون هيوز قائلاً إنها “غير حساسة ومفاجئة”، بل وصل تقدير المواقف بصحيفة الديلي تلغراف إلى القول: “بلير يترك سترو منعزلا في قضية النقاب”.

ما هو مؤسف في كل ما يجري، أنه مرة أخرى، يدور النقاش في حرية الملبس والحجاب والسفور خارج الجاليات الإسلامية وينحصر موقف هذه الجاليات في ردود الأفعال.

ومن المفهوم أن تتجنب جاليات مستهدفة في عقيدتها ودينها وثقافتها وهويتها أي نقاش نقدي حر في موضوع يكثف مفاهيم مركزية في الدين والعرف الاجتماعي كالحرام والعرض والفريضة، ولكن علينا أن نتذكر أن المسلمين برغم كل ما يتعرضون له يشكلون اليوم الجماعة البشرية الأكثر دينامكية وحضورا للنقد والمراجعة وطرح الأسئلة ورفض فكرة الإطلاق في ما يتعلق بقضايا الدنيا.

لكن مجادلات الحجاب والنقاب عند العرب والمسلمين تعود لأكثر من مائة عام، وقد جرت نقاشات غنية حوله عند قاسم أمين ومحمد عبده وفي أطروحة الدكتوراه التي أعدها منصور فهمي في السوربون عام 1912 وكان من نقاط قوتها “التاريخ الاجتماعي للحجاب” الذي ترجمناه للعربية قبل عشرين عاما. “ما الذي يجب ستره من البدن عن الأنظار صونا للأخلاق” يسأل الطاهر حداد رجال الدين.

نظيرة زين الدين (1908-1976) لا مارغريت تاتشر من يقول في آية الحجاب: “قرأت نحوا من عشر تفسيرات لا تنطبق رواية على رواية، كأني بكل واحد من الرواة يريد بما يروي أن يؤيد ما يرى، ولم أر رواية مستندة إلى دليل ما”.

عبد الرزاق السنهوري هو الذي استنبط من الإجماع وسيلة لقراءة التجديد في الشريعة حين كتب: “الإجماع في المرحلة الأولى كان شيئا يصدر عن غير قصد بل عن غير شعور، عادة ألفها الناس فصارت محترمة. أما في المرحلتين الأخيرتين، فهو يصدر عن شعور، وإن لم يصدر عن اتفاق مقصود.

فلو تطور الإجماع، في مراحله المنطقية، وجب أن يصل إلى مرحلة يصدر فيها عن هذا الاتفاق المقصود، ولا يكتفى فيه بالاتفاق العرضي، فيجمع المسلمون، أو نواب عنهم، ويستعرضون مسائلهم، ويقررون فيها أحكاما تتفق مع حضارة زمنهم، وهذه الأحكام تكون تشريعا.

وبذلك يكون الإجماع عنصر التجديد في الشريعة الإسلامية، يحتفظ لها بمرونتها ومقدرتها على التطور”.

الأستاذ جمال البنا سبق جاك سترو لتناول قضية الحجاب والنقاب والعزل ولكن باعتبارها دخيلة على المبادئ الإسلامية: “يمكن القول بدون مخالفة للوقائع أن المجتمع النسوي في عهد الرسول (صلى الله عليه وسلم) كان مجتمعا محتشما، ولكنه لم يكن منقبا، وإن لم يخل من منقبات اعتبرن شذوذا عن الوضع العام”.

احترام الهوية الفردية في الإسلام: يمكن القول دون جرح مشاعر المتعصبين للعهد القديم، إن من التنقيحات الأساسية في القصص الديني اليهودي-المسيحي، القراءة الإسلامية القائمة على المساواة في قضايا الخطيئة الأولى والتكريم الإنساني وتفريد المسؤولية والخلق والطبيعة.

ففي القرآن الكريم تقع الخطيئة الأولى كما هو واضح في الآيات من 35 إلى 37 من سورة البقرة والآيات من 19 إلى 23 من سورة الأعراف على المرأة والرجل، بخلاف الأساطير الشرقية والعهد القديم الذي تضعها على المرأة وحدها.

التكريم في القرآن لكل بني آدم بغض النظر عن الجنس واللون والمعتقد، أما المسؤولية فيقع تفريدها حتى داخل البيت الصغير.

من هنا زرع الإسلام كل شروط مفهوم الشخص التنويري الغربي قبل ولادته بتسعة قرون، ولو أن المسلمين لأسباب اجتماعية-تاريخية وسياسية-دينية لم ينجحوا في إعطاء هذا المفهوم المتسامي حقه في الحياة اليومية للمسلمين.

لم يكن مبدأ الفصل والعزل بين الجنسين من مبادئ تنظيم العلاقة بين المرأة والرجل في عهد النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، خاصة أن نشأة الدين قد انطبعت بكون أول من اعتنقه امرأة (خديجة بنت خويلد)، وأول من قضت نحبها تحت التعذيب من أجل الدين الجديد أيضا امرأة (سمية بنت عمار).

ومع الهجرة إلى يثرب (المدينة) عرف مسلمو مكة تقاليد أكثر ليبرالية فيها، إذ شاركت النساء في النضال السري والهجرة والعمل الحرفي وبعضهن كأم سليم في القتال وغيرهن آسيات (ممرضات) للمقاتلين.

وقد كن يتابعن أحكام القرآن بل وألفاظه، وقد استفسرت أم سلمة زوجها النبي (صلى الله عليه وسلم) بعد آيات غاب ذكر النساء عنها: “فما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال؟”.

يمكن أن نستنبط من جملة الروايات الإسلامية الأولى أن النقطة المركزية في حبكة الحجاب لم تكن رهبنة الحياة العامة بقدر ما كانت في اعتبار اللباس أحد مقومات التمييز النسائي (التفاوت بين الحرة والأمة والمسلمة وغير المسلمة الخ)، وقد جمعت عشرات الروايات التي تتناقض مع مفهوم الخوف من الفتنة وضرورة الستر العام.

ويلاحظ من روايات الأربعين عاما الأولى من فجر الإسلام وجود خلاف في موقف الصحابة بين لين ومتشدد، مما يدل على تعددية في الرأي والمواقف.

إلا أن هذا العامل وإن ترك أثره دون شك، لم يكن الحاسم في قضية الحجر على النساء وتعميم الحجاب على كل المسلمات، فقد ترافق التوسع الإسلامي في المكان والزمان مع ضعضعة تركيب الأسرة العربية عبر الغزو المزدوج: حمل البشر والدين الفاتح لجغرافية الآخرين، وحمل الآخرين دما ولحما وثقافات إلى صميم البيت الإسلامي.

فقد صار في كل بيت عربي امرأة غير عربية من الإماء والسبايا على الأقل، وقد حاولت القبائل تدارك ما تستطيع عبر نظام الموالاة وتأميم النساء العربيات وعزلهن باسم الدين، الأمر الذي وسع نطاق منظومة العزل وغيب الهوية الشخصية للمرأة بتعميم النقاب على أوساط واسعة في المجتمع.

وكما ذكرنا فإن ما زرعه الإسلام من قفزة نوعية لمفهوم الحرية والمسؤولية والسلامة في النفس، وكرامة في الإنسانية ورفض الإكراه في الدين والمعتقد، تم استلهامه من قبل الإنسانيين الأوائل ومن اتهم بالرشدية في أوروبا، ممن زرع مفهوما جديدا وأصيلا لسلامة النفس والجسد تطور مع فكرة الشخص صاحب الحق الإيجابي العام، في مواجهة الحق السلبي (أي الحق الذي يناله الرجل على حساب المرأة والحر على حساب العبد والأبيض على حساب الأسود والأسمر).

هذا المفهوم هو الجد المباشر للشرعة الدولية لحقوق الإنسان التي حاولت استلهام هذه الإنجازات بروح مدنية، ولكنها لم تتمكن بعد من جعل الحق بالفعل مرجعا فوق القوة والقيم قوة فوق المصلحة المباشرة.

في هذا المعمعان، يأتي الحجاب اليوم في أوروبا كظاهرة مركبة ومعقدة من العبث تعميم التحليل حولها: فلكل حجاب قصته الخاصة، وإن كانت الجماعة تطمح باستمرار لتعميم قصتها ورؤيتها للموضوع، فليس بالإمكان إخفاء التمايزات النفسية والاجتماعية والسياسية داخل وخارج الأسرة والمجتمع.

إن دوافع وضع الحجاب تختلف اليوم باختلاف المكان ودور المرأة فيه، كذلك تختلف مؤشرات انتشار الحجاب بين بلد وآخر وحالة وأخرى.

ولا بد من التذكير بعبثية تناول الموضوع بالطريقة عينها حتى من وجهة النظر الدينية، بين بلد فيه أغلبية مسلمة وبلد الأغلبية فيه غير مسلمة، بالنسبة للفتيات والمراهقات وبالنسبة للبالغات، في المدرسة الابتدائية وفي الجامعة.

فأي نظرة أحادية للموضوع بالنسبة للحالات المذكورة أعلاه تعني طمس التثاقف بالثقافة العربية الإسلامية واختزال الثقافة في بعدها الديني واختزال الدين في شكله الأكثر انغلاقا، كما أنها قد تنجب تقاسم التسلط بين تطرف “علماني” وتزمت “إسلامي” ينكر كلاهما حق الآخر في الوجود (كما في السعودية أو تونس).

لقد نجحت المنظمات الحقوقية في كسب دعوى قضائية في مدينة كريتي الفرنسية تدين مؤسسة فصلت امرأة مسلمة بسبب حجابها وخسرت جمعيات عدة قضايا تتعلق بفتيات قاصرات.

وفي بلدان مثل هولندا حيث كان الحجاب مقبولا جاء النقاب ليخلق مشكلة اجتماعية وتعليمية تركت آثارها على الحجاب الشرعي، إذ هناك فارق بين طريقة الملبس وحق الاختيار فيه وتغييب الصورة الآدمية في مجتمع مشهدي فائق التفرد hyper individualiste يعتبر الوجه مقوما أساسيا من مقومات الهوية الشخصية.

صحيح، أن الحجاب يشكل القاسم الأعلى في التحليل النفسي لمبدأ عدم الاختراق في الجنس والهوية للفرد والجماعة، إلا أن هذه الآلية الأيديولوجية والاجتماعية تنعكس سلبا على الهوية نفسها عندما يغيب الفرد في النقاب تماما عن حقه الطبيعي في معالم وجه مختلف وليس فقط صوت يختلف أو جسد جسيم أو هزيل.

وهذه المشكلة إن لم تنل الوضوح نفسه في مجتمعات مازال تفريد النساء فيها ضعيفا فهي في المجتمعات الأوروبية نقطة علامة على حق مكتسب.

من هنا ضرورة الحكمة في التعامل مع ظاهرة النقاب حتى لا تخلق شرخا ورد فعل في صفوف الشابات المسلمات في الغرب اللاتي يتبعن مبدأ “يسروا ولا تعسروا”، ويعتبرن المبالغة في بعض المظاهر زيادة في القطيعة مع مجتمع أوروبي يعتبر ظاهرة الغيتو التاريخية واحدة من النقاط السوداء في تاريخه.

في الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، منع الحجاب لا يختلف عن منع السفور، فكلاهما يشكل انتهاكا لحق المرأة في جسدها وحقها في طريقة التعامل معه دون أي ضغوط خارجية، ولا يوجد ما يمنع امرأة من النقاب.

إلا أن السؤال الجدي المطروح على المسلمات الأوروبيات هو: هل يمكن تطبيق نفس الأحكام والأوضاع في مدن تعز والرياض وأمستردام؟ هل يمكن اعتبار تغييب الهوية الفردية معتقدا إسلاميا أو هو التعبير الأفضل لتعريف الآخر بالإسلام؟

هل يمكن التعايش مع الآخر دون أن يقدم الآخر جزءا من ذاته ويقدم المواطن الجديد أيضا جزءا من هذه الذات لتلتقي المواطنة في حقل أرحب يعتبر أجمل ما عند الذات والآخر ميراثا إنسانيا مشتركا وليس تطرف الذات وعنصرية الآخر؟

ألم يحن الوقت الذي نستعيد فيه حكمة الأستاذ عصام العطار في فوضى وزخم تكون جيل جديد من المسلمات في أوروبا في صلب تكوينهن رفض إلزامية الحجاب أو النقاب ورفض إلزامية السفور.

“كيف نقبل الجمود، بل كيف يمكن الجمود في عالم تتجدد معلوماته ومعطياته ومطالبه ووسائله.. باستمرار لا بد لنا من التجدد الدائم، والإبداع المتواصل، والجهاد المضني في كل مجال..

وإلا فقدنا حياتنا ووجودنا الفاعل المؤثر، وأزاحنا الركب البشري عن طريقه، وقذف بنا إلى هامش الهامش، أو هوة التاريخ، فذهبنا جفاء كما يذهب الزبد وغثاء السيل، ومحينا من لوحة الحاضر والمستقبل، وتحولنا إلى ذكرى من ذكريات الماضي البعيد”.

19/10/2006 عن الجزيرة نت