أبريل 16, 2024

الإيديولوجية الديمقراطية

democracyالإيديولوجية في هذه الأسطر هي مجموعة المعطيات التي يعتبرها أصحابها حقائق مغلقة ثابتة ونهائية. لا فارق في ذلك بين أن تكون دنيوية أو دينية، شرقية أو غربية. أما الديمقراطية، فهي اعتبار الحكم قضية عامة يحق لكل واحد ومجموعة المشاركة بها مباشرة أو بالوكالة التعاقدية الحرة. يصبح المشروع الديمقراطي محدود الأثر والفاعلية في حياة الشعوب عندما يتحول إلى إيديولوجية. أي يصبح مجموعة نصوص ومسلمات تقنية صالحة لكل زمان ومكان، لا يأتيها الباطل من بين أيديها ولا من خلفها. هذا المقدس الدنيوي يشكّل عملية تسطيح وتفريغ للفكر السياسي من مهمته الأساسية، أي القدرة على إبداع الأوضاع الأنسب للحقوق الإنسانية والطبيعية. ولعل مدرسة فرانكفورت من أهم المحاولات النقدية الغربية لهذه الأدلجة للديمقراطية الشكلية.    من الأقلام المبكرة التي تناولت مخاطر تحجيم الفكر الديمقراطي بجعله عقائديا الشاعر المصري جورج حنين الذي قال في 1968: “لا يمكن  أن تنتج الديمقراطية عن أي نص مكتوب، وإذا لم تكن قد أضحت، قبل دخولها في القوانين المكتوبة أسلوبا وإرادة وجود، شكلا للأخلاق العامة متجسدة في المسلك الجماعي، فإنها لا تمثل أكثر من عملية خداع من قبل السلطة”.

مع تحويل العديد من المثقفين والحزبيين للديمقراطية إلى إيديولوجية في يوم ماتت فيه الإيديولوجيات، فقدت الديمقراطية روحها كقوة إبداعية وتحولت إلى عملية نسخ وترويج وتهريج لتقنيي معرفة متكلسة ومسبقة تسعى لمواجهة أوضاع جديدة وغير مسبوقة. إذا ما أحكمنا النظر في تقنيي المعرفة الإنتخابية في الدول الغربية، يستعملون الشعار والجملة والإعلام، يهندسون القانون الانتخابي واحتواء الجموع، يروضون الجمهور للدفاع عن مجموعات ضغط إيديولوجية وتجمعات مصالح اقتصادية، وينجحون في تهزيل الأنموذج الديمقراطي في ثقافة الإرهاب وإرهاب ثقافة الهيمنة، كل هذا في بلدان عريقة بتجربتها الديمقراطية.  فكيف يمكن أن نتصور نجاة بلدان غير ديمقراطية  من فجوات إعادة التصوير الفوتوكوبي بأدوات رديئة؟

لقد وصلنا في عملية التوظيف والاستعمال للماكينة الانتخابية إلى أن نقف قبل كل انتخابات لنسأل: هل نقاطع أو نشارك، ومهما كانت الحجج، وهي قوية وضعيفة في الحالتين، في واقع الحال هما أمران أحلاهما مّر. في الشرق الأوسط العزيز على قلب المحافظين الجدد، جرت انقلابات وتغييرات من فوق، بطيئة أو سريعة ثم مرتدة باستثناء حادثين يستحقان التوقف طويلا، الحركة الاجتماعية في إيران وفي الجزائر. في كلا الحالتين كنا أمام عملية زج جماعية للجماهير في أتون العمل السياسي والشأن العام. في إيران، وقفت كل معاقل النظام الإقليمي القديم ضد التغيير، ودفعت المليارات للنظام العراقي ليقوم بتكسير الحدث التغييري. في الجزائر، جرى وقف العملية الانتخابية بانقلاب عسكري وكانت النتيجة أكثر من 200 ألف قتيل ومفقود وانكفاء يائس عن كل ما هو انتماء سياسي عند معظم الشبيبة. بغض النظر عن الموقف من الحركتين، لم يكن من حق الشعب أن يعبر عن نفسه بالطريقة التي يريد باختيار ما يريد.

بقي علينا أن نتناول حالات وضع ونزع الماكياج الضرورية، سواء كان ذلك في ظل الاحتلال أو في ظل أنظمة ملّت من نفسها قبل أن يمقتها الناس. في أوضاع الاحتلال، إصدار صحيفة ناقدة يعتبر فردوسا للمحتل بالمقارنة مع المقاومة المسلحة، فهو ورقة حسن سلوك دولية غير مكلفة، خاصة عندما توزع الصحيفة 500 نسخة معظمها للصحب وأبناء العشيرة السياسية أو الاجتماعية. في هذا الظرف، الانتخابات “الديمقراطية” جزء من منظومة الهيمنة، قبول لفكرة احتكار العنف من طرف المحتل (لا من طرف الدولة كما يفترض القانون الدولي). وهنا تكمن أهمية حدث انتخاب حماس في فلسطين: فحماس ليست منظمة حملتها الدبابة الأمريكية أو الإسرائيلية، وهي ترفض اتفاقيات أوسلو، ولا تعترف بالكيان الإسرائيلي. هذا الوضع الاستثنائي لا حق له بالحياة، ولا تستغرب الشراسة الأوربية والأمريكية (والعربية الرسمية؟) لوضع حد له.

في الأنموذج المصري استطاع القضاة، زرع إسفين حر في آليات السيطرة على الانتخابات الشكلية، فصار من الضروري ضرب السلطة القضائية الصاعدة. ما سمي بالإصلاحات الدستورية وضع حدا لإمكانية تذرير السلطات ومحاسبة السلطة التنفيذية وقمتها، وصار من الضروري ابتكار محكمة نقض عسكرية ليكون ثمة جهاز مواز كامل لكل ممارسة قضائية يؤبد مبدأ “قضاء التعليمات” الدكتاتوري. وبلغ الدهاء ذروته بتفريغ شعار رفع حالة الطوارئ من محتواه عبر تثبيت عناصر هذه الحالة الاستثنائية في الحرب الدائمة العادية غير المحدودة الزمان أو المكان، على الإرهاب؟؟

التقنية الانتخابية تجلت في العراق المحتل بشكل مهزلي مأساوي، أحد الأصدقاء الذين لم يعودوا على دبابة أمريكية ولم يأخذوا مرتبا من البنتاغون ولم يقبل على نفسه دخول مجلس الحكم بأمرة بريمر ولم يقبل المحاصصة الطائفية قام بتشكيل لائحة انتخابية من خيرة الناس، أسماء لم تتلوث باستبداد ولا فساد ولا استعباد محتل، وكانت النتيجة حصول أفضلهم حظا على 300 صوت. بكل بساطة، لأن جبهة مناهضة المحتل كانت في معظمها ترفض المؤسسات التي يخلقها، فكان المشارك في بناء هذه المؤسسات من العناصر الخيرة قليل جدا نسبة للأطراف الموالية للاحتلال. في المنطق الغربي، تعطى هذه العملية لقب الشرعية الانتخابية رغم أنها أوصلت قطاعات من الملوثين بالطائفية والشوفينية إلى أغلبية ضرورية لدعم الاحتلال الأمريكي للعراق، بل لنقل بتعبير آخر تحطيم البلد؟

ما هي إذن جملة العوامل التي تجعل من الانتخابات التعبير الأمثل عن إرادة الناس وليس مجرد لحظة كيدية أو رد فعلية أو عملية تنويم مغناطيسي جماعية لا تحتاج إلى برنامج أو توجهات واضحة أو مبادئ محددة لطبيعة الدور الفردي والجماعي في التغيير؟ كيف يمكن إنقاذ الانتخابات من تعويم البرنامج ومحترفي شراء الأصوات والتضليل الإعلامي والأمية السياسية التي جعل منها الاستبداد الحزب السياسي الأكبر في العالم العربي؟

هل يمكن إنقاذ المشروع الديمقراطي من الإيديولوجية الديمقراطية في غياب خطاب نقدي مركزي في تصوراتنا السياسية والفكرية؟ أليس من الضروري تعدد وسائل النضال والمقاومة المدنية بشكل لا تحصر المعارضة الديمقراطية نفسها فيه بالخطاب المحدود السقف والأفق، الذي صار رغيفا يتقاسمه الضحية والجلاد.

30/8/2007