أبريل 19, 2024

حقوق الإنسان بين ثقافة التغيير وتغيير الثقافة

change

عند قراءة عنوان الندوة، عدت بالذاكرة لتأريخ حاولت تجميع حلقاته المفقودة. بحثت عن أول الأصوات العربية في حقل حقوق الإنسان وعن السنوات الأولى التي ابتعدت فيها عن العمل الحزبي ونشطت في مجال الاعتقال التعسفي قبل أن أدخل عالم حقوق الإنسان من بابه الواسع. استذكرت بأمانة طريقة تفكيرنا، كأفراد أو جمعيات، بقضية التغيير، ثقافة ومنهج تفكير، وعلاقتها بحقوق الإنسان. وراجعت دور حقوق الإنسان في الخروج من حالة مستنقعية جعلت كلمة التغيير القاسم المشترك الأعلى للمطلين على الشأن العام أفرادا وجماعات.
عندما بدأ فرح انطون القرن الماضي بترجمة إعلان حقوق الإنسان والمواطن (عام 1901) ودافع عنها عبد الرحمن الكواكبي في مناهضته الاستبداد وتحدث عنها لطفي السيد في “الجريدة” منذ 1907 وتبناها جميل معلوف في “حقوق الإنسان وتركيا الجديدة” (1910)، كانت حقوقالإنسان أمثولة ما، أنشودة المطر في سنوات القحط العثماني المتأزم. بحث عن الذات بين الحرية والعدالة: كيف يمكن أن تدخل في الحياة والمؤسسات والمدارس، وأن تخرج من عقول النخبة لتدخل بيوت العامة؟ كيف يمكن اكتشاف المستقبل الآخر عبرها أو معها؟ حقوق الإنسان لم تكن بعد قضية مركزية حتى عند أكثر المهتمين بالتعريف بها.
علينا انتظار 1948، أي ثنائية تزامن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وإعلان تقسيم فلسطين، لإدراك إشكالية ارتباط حقوق الإنسان بالآخر (الغرب) أكثر منه انبثاقها من عملية التفاعل معه. الأمم المتحدة التي دخلها العالم العربي كحجر الشطرنج ورسمت معالمها القوى الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، سجلت انتصارا عالميا كبيرا على صعيد حقوق الإنسان. لكنها شكلت بالمقابل هزيمة في الوعي الجماعي العربي على صعيد تعليق حقوق الشعوب، بما في ذلك تأجيل تبني مبدأ حق تقرير المصير وغياب أمثولة العدل عن القرار المتعلق بفلسطين. لذا وبعكس دول العالم الأخرى، لم يتشكل في الخمسينات أية منظمة لحقوق الإنسان في العالم العربي. لعل في العودة الموضوعية لحقوق الإنسان إلى توازن، يقر بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ويؤكد على حق تقرير المصير، في خضم حركة نزع الاستعمار في نهايةالخمسينات ومطلع الستينات (الأمر الذي تمخض عنه ما يعرف اليوم “بالشرعة الدولية لحقوق الإنسان” في 1966)، ما أعطى للمثقفين والحقوقيين في العالم العربي الدفعة اللازمة للانضمام إلى توجه دولي يزداد عالمية يوما بعد يوم على حساب البصمات الغربي ة التي طبعت انطلاقته.
الجيل الثاني من المهتمين بحقوق الإنسان كان ابن مطلع الستينات. وقد شكلت الرابطة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان في سورية، والجمعية العراقية لحقوق الإنسان في العراق، والعصبة المغربية لحقوق الإنسان في المغرب، واللجنة القومية لحقوق الإنسان في السودان، محاولات سعت لإعادة التوازن بين الوطن والمواطن والديمقراطية وقضية التحرر الوطني. لكنها لم تستطع للأسف الوقوف في وجه تيارات ضحت بالحرية باسم التحرر الوطني وبالمواطنة باسم الوطن أو المصلحة القومية العليا عند البعض، أو الطائفة والطبقة المختارة عند آخرين. التباين بين حقوق الإنسان والإيديولوجيات كان العلامة الفارقة الوحيدة لهذه المرحلة. وعلينا انتظار هزيمة الإيديولوجيات، أو المعاناة من تسلطها المفرط في رفض واستئصال الآخر، لنستعيد اكتشاف حقوق الإنسان. وذلك مع جيل جديد حمل على أكتافه التربية والتربة التسلطية في البيت والشارع، وشمولية القمع الذي حصر خياراته بالسجن والمنفى والسرية، في خضم حصار غير متكافئ حرمه من التعبير عن الذاتالسياسية والمدنية والثقافية.استكمل هذا المشهد معالمه في نهاية السبعينات، وهنا يمكن التناول التحليلي بتداخل شاهد الع يان والمحلل: أول سمة للجيل الثالث هي دخوله الساحة كتعبير عن حاجة. الأمر الذي لا ينقص من أهميته، بل على العكس يعطيه شرعية البعد الموضوعي الهام لأية حركة. إلا أن هذا الجيل هو أيضا نتاج الأوضاع التسلطية، المحبط أحيانا، المهمش أحيانا أخرى. وبهذا المعنى، كان يحملعقابيل الإرث المجتمعي والسياسي والرغبة العميقة في التحرر منه بآن. فهو يرغب في تسطير معالم مرحلة جديدة وهوية جديدة، لكنه يتابعبعيون يقظة نظرة “الرفاق” وال”الإخوان” القدامى له. يخشى من خيانة مفترضة لخطيئة رمزية لم تحقق انقطاعه عن هزيمته المبكرة وانسحابه من المشروع السياسي للتغيير، لتعبير ثقافي ونضالي مدني له: أعني المشاركة في بناء سلطة مضادة تخلق الظروف الموضوعية لتفتيتتسلط وشمولية السلطة وتهيئة الأرض لإعادة مفهوم المشاركة السياسية والمدنية لكل المجتمع.
من هنا، اجتر هذا الجيل أمراض هزيمته السياسية أحيانا وبطء مخاض الابتكار الفكري والعملي أحيانا أخرى. لم يقم دائما بعملية تحويل للتعاطف الشعبي معه إلى زواج عقلاني وخلاق. أذكر أنني عندما طرحت أزمة حركة حقوق الإنسان العربية، في 1990 في العاصمة الفرنسية، مركّزا على حق النقد وحق الاختلاف، وواجب أخلاقية المحاسبة ودمقرطة العلاقات والشفافية الكاملة، ضحك الحاضرون. علقأحدهم بالقول: أنت تتحدث عن ثورة لا عن تكوين منظمة حقوق إنسان. وقد اضطررت في نهاية القرن لتكرار نفس العبارات تقريبا في مدينة الرباط. وها أنا اليوم أرى نفسي أمام السؤال عينه: هل تمكنت الحركة العربية لحقوق الإنسان من زرع تقاليد فكرية ومسلكية جديدة تدخلها فيمنطق التغيير؟ هل يمكن الحديث جديا في حقوق الإنسان دون وضع الإصلاح الثقافي والأخلاقي، باستعارة تعبيري غرامشي والأفغاني، على الطاولة؟
كانت الانطلاقات الأولى قطرية أو قومية، ثم اكتشفت العالمي في حقوق الإنسان من المنظمات بين الحكومية (الأمم المتحدة) إلى المنظمات غير الحكومية (التنظيمات الدولية الغربية). وقد سارعت عدة نماذج عربية للاندماج المهني والاحتراف السريع دون حماية ظهرها بالتواجد المجتمعي القوي. الأمر الذي جعلها تشبه البالونات المنفوخة بالمساعدات الخارجية و/أو الإعلام الغربي. وبقدر ما كانت ضعيفة الفعل والتغيير في المسار العالمي لحركة حقوق الإنسان، كان التغيير بالنسبة لها ابن الأجندة المفروضة من عرابيها الذين سمحوا لصحفيين من الدرجة الثانية أو محامين متواضعي الكفاءة بإدارة مؤسسات ذات تمويل يفوق بعض وزارات بلدان الجنوب. هنا، لم يعد همّ المشاركة في تغييرالثقافة أو مناقشة ثقافة التغيير هما محايدا. فخسرت حركة حقوق الإنسان العديد من الطاقات التي آثرت الترويج للخطاب الأوربي أو الأمريكي على ابتكار خطاب ينبع من الحاجات المحلية. لم تعد العالمية عند هذا التوجه مطلبا جنوبيا يعيد الثقة بكل الحقوق للجميع، بل أصبحت في محاولات الإثبات الدائم لحسن النية باتجاه واحد.
لحسن الحظ، بلغت هذه الظاهرة السقف الأقصى لها ولم تعد ذات ثقة مجتمعية أو تأثير في عملية البناء المدني. ترافق تحجيم دورها بتآكل وتراجع ملة المراضاة المحلية للسائد المجتمعي أو السلطة السياسية، والتي لم تعد تخرج عن سرايا السلطة أو الإرضاء السريع والسهل لعواطف ما يعرف بالشارع. لقد تخلت عن دور فعلي في التغيير بتخليها عن تناول الملفات الحساسة والصعبة.
يشكل النفي، واحدا من أفضل وسائل التعريف. وثقافة التغيير، في زمان ومكان معينين، هي أولا حالة الرفض لمقومات الثقافة السائدة: رفض ثقافة الخوف والرقابة، رفض ثقافة الارتهان والاستزلام، رفض ثقافة التبعية والتقليد الأعمى، رفض ثقافة الإرضاء. في كتابي “تحديات التنوير”(1990) ربطت أشكال انعتاق المثقف والثقافة بالخروج من قيود الجدران الأربعة التي تشكل عنصر تدنيسٍ مختلفِ الدرجات والأشكال للوعي: السلطة والمجتمع والغرب والتقاليد.
لا يمكن الحديث عن ثقافة التغيير في محاولات اللحاق أو الالتحاق. كما لا يمكن مناقشة التغيير خارج إطار الفكر النقدي الذي يتناول في العمق الخارطة المجهرية للذات، يسعى لاكتشاف مناهج تغيير الذات لتغيير العام أو العودة للتاريخ. العودة للذات تعني اكتشاف الشخص، أي الإنسان ذو الحق الإيجابي، الحق المكتسب في الوجود الإنساني على الصعيد العالمي. لا معنى للتوقف عند أصول هذا الحق، إلهية كانت أم طبيعية. فالمدارس الدينية والفلسفية الكبرى كانت كبيرة بقدر ما كرمّت الكائن الإنساني. والمشكلة المركزية هي في اعتبار فكر حقوق الإنسان محوريا في عملية كسر الاستعصاء السائد.
خلقت أحداث الحادي عشر من سبتمبر حالة طوارئ على الصعيد العالمي تركت بصماتها على حركة حقوق الإنسان. حيث طرحت بقوة مسألة التغيير من الخارج، لكن ضمن حالة حصار للمنظومة الحقوقية الدولية. لقد تم بناء منظومة عولمية أمريكية في مواجهة المنظومة العالمية الناشئة. استبدلت هيئات الأمم المتحدة بتحالفات الراغبين المؤقتة. وهمشت المحكمة الجنائية الدولية باتفاقيات ثنائية تقيد الاختصاص الجنائي العالمي. وتعززت فكرة المواجهة الأمنية للإرهاب على حساب تماسك النسيج المجتمعي الداخلي بمزيد من الحريات والحقوق والمعالجة السببية لإنتاج العنف في المجتمعات. لعله من المثير للدهشة أن مفهوم الأمن الإنساني، الذي شارك في صياغته خبراء أمميون، لم يجد مكانا له في المنظمات والتيارات التي تتحدث عن القراءة الأمريكية للتغيير.
لا يمكن لقوة في العالم أن تفرض التغيير من الخارج إلا بإزالة الغير المتعارض معها. أي باتباع وسائل الإلغاء والاستقصاء التي لا تتوقف عند حاجز الإبادة الجماعية. إن ما يسميه الرجل الأبيض الغربي بالعالم الجديد هو أيضا عملية التحويل الدموية للسكان الأصليين في الأمريكيتين إلى أقلية في طور الانقراض الثقافي. ثقافة التغيير هي ابنة التحول الذاتي من القاصر للفاعل، من المروّج للمنتج، من الإجارة للشراكة، من التهريج إلى إعادة صياغة مفهوم القوة الذاتية، أو ما يعرف بالفرنسية بالاوتو موبيل (أول أسماء السيارة أي القدرة الذاتية على الحركة دون حصان أو حمار أو بغل يقود العربة). مفهوم لا يسمح ولا يكفي لكي تغير الأغلبية جلدها فتصبح كما نحب جميلة براقة في عيون الآخر وحسب!
إذا كان الخارج هو الترجمة المثلى لوجود حياة خارج كل غشاء، من الخلية البدائية إلى المنظومة الكونية تؤثر وتتأثر، فإن السرطان والنمو السليم هما، من حيث المبدأ، آليات داخلية تتأثر وتتفاعل وربما تبدأ بتعديات خارجية. لكن هل يمكن تغيير التركيب البنيوي للبشر بقرار من شركة متعددة الجنسيات أو حكومة متوسط عمرها أربع سنوات؟ وكما قال أحد الفكاهيين العرب: “هل يمكن تحويل السيد وزير الدفاع في العراق إلى ديمقراطي بمجرد ركوبه الدبابة الأمريكية؟” وهل ينسيه ذلك “ضرورة” قطع الأيدي والرقاب لاستتباب الأمن الوقائي آخر حلقات الحرب الوقائية ؟”
ليس الخارج شرا مطلقا، وليس الماضي سرطان الأمة. للسلطات حصتها في البؤس السائد، لكنها لا تحتكره أيضا. كما أنه من الصعباعتبار الداخل المجتمعي مصدر الخيرات. يعلمنا التاريخ أن التحولات الأعمق والأهم في حياة الشعوب هي تلك التي أمسكت قوى فعلية مجتمعية بزمامها ومصائرها. كما أن هذه التحولات لا يمكن أن تخرج من قمقم الركود المستنقعي دون تنظيف السجون، ومحاسبة الرقابة، وإطلاق الحريات الأساسية، وإعادة حق النخب الثقافية في التواصل مع مجتمعاتها بكل حرية. ودون عدم التعرض لأشكال التنظم والتضامن المجتمعية، التي تشكل النويات الفعلية لوجود فضاء غير حكومي جدير بالتسمية في عدد كبير من الدول العربية. في هذا الإطار، لعبت الحركة العربية لحقوق الإنسان دورا هاما في تعزيز ودعم الثقافة الديمقراطية. فنظمت في العقد الأخير مناظرات وتجمعات هامة للنقاش والتأمل الفكري والسياسي والثقافي حول الديمقراطية والإصلاح السياسي. كما واحتضنت المبادرات الأهم لدعم الديمقراطيين في المنطقة ودافعت عن أطروحات سياسية أساسية كالعلاقة العضوية بين سيادة الدولة والإنسان السيد (الاستقلال الثاني)، بين المواطنة والخطاب الوطني، بين الس لم الأهلي والحريات الأساسية الخ. حيث نجد إنتاجا هاما ومؤثرا على أكثر من مستوى.
أظهر هذا النشاط نقاط قوة وضعف الحركة، وحقق فرزا بين مستويات مختلفة للتصور والقدرة على العطاء والتأثير. فبين محاولات جادة تركتبصماتها في الوعي الجماعي لا يعدم الأمر وجود بيانات لا تفرق بين الليبرالية والديمقراطية وإصدارات جد هزيلة في المبنى والمعنى. الأمر الذي يظهر عدم إمكانية التعامل مع هذه الحركة كوحدة منسجمة أو ككتلة متجانسة، ويعكس واقعها الحالي كتجمع عجائبي يشبه الكشكولالبهائي.
لقد ترك الخارج أثرا كبيرا على التوجه البنيوي لحركة حقوق الإنسان. ذلك عبر دعم فكرة مراكز محترفة صغيرة مغلقة تعتمد المساعدات الخارجية، ولا تشكل تعبيرا حقيقيا للمجتمع المدني أو جسرا فعليا للعلاقة بين النخبة والمجتمع.
لا نريد أن نخلط بين فكرة التفاعل مع الخارج وهذا النمط من التوجه. فالخارج، هو الرئة لكل مستنقع استبدادي يحاصر فيه الإنسان، وهو عملية التفاعل الخلاقة لإغناء التجربة المحلية. لكن الخارج أيضا، وفي زمن الاستهلاك العولمي، هو القضاء على فكرة المؤهلات بفكرة الولاء. القضاء على فكرة المشاركة بعلاقات تبعية، وضرب النمو الطبيعي للكوادر باصطناع نخب بالونية تتسوق من البضاعة المعروضة.من هنا ضرورة التذكير بأن الفعل التاريخي هو في التفاعل مع المجتمع لا في بناء مؤسسات معزولة عنه. وفي تحديد المشترك الإقليمي والعالمي النابع من الحاجات المشتركة للشعوب. يمكن للمجتمعات الباحثة عن بيئة نظيفة أن تجد الصدى لنضالها فوق الحدود، ويمكن للحقوقيين أن يتضامنوا من هونغ كونغ إلى سان فرانسيسكو. لكن دون أوهام وشعور بأن قوة المجتمع المدني في السويد تعني وجود قوة فوق المعتاد تحت تصرف المجتمع المدني في مصر أو السودان.
إن في استيعاب القدرة على التأثير والتأثر، الفعل والفعل المضاد، التواصل مع الآخر دون فقدان بوصلة القدرة على البناء الذاتي للنحن، ما يشكل عناصر أساسية لإدخال عملية التغيير وثقافة التغيير في منطق الشخص الرافض للانكفاء في التفريد. هذا المنطق الذي يرى الوجود من خلال الذات الضيقة أو الذوبان الجماعي باسم البزة الإيديولوجية، والتمتع بسلامة النفس والجسد وحق المشاركة وحرية الفعل.
لا يمكن الحديث عن التغيير الثقافي أو ثقافة التغيير إذا لم نسلم بأن ثقافتنا السائدة، رسمية كانت أو شعبية، ليست ثقافة حقوق إنسان. وأن فكر حقوق الإنسان لا يمكنه رفض تعبيرات التغيير الثقافي المختلفة وثقافة التغيير إلا بقدر ما تتعارض مع المكتسبات الإنسانية الكبرى على صعيد حقوق الإنسان. فبمقدار ما تشكل هذه الحقوق الأرضية الصلبة للانطلاق إلى مجتمع جديد، بقدر ما نكون قد استلهمنا وتجاوزنا روح العصر، عوضا عن اجترار فتاتها بشكل إيديولوجي أو اجتزائي أو مسطّح.
بهذا المعنى، هناك رؤى مختلفة لثقافة التغيير وتغيير الثقافة عند نشطاء حقوق الإنسان في العالم العربي. البعض يعتبر السؤال خارج مهمات حركة حقوق الإنسان، والبعض الآخر يعتبر حركة حقوق الإنسان أحد عناصر التمهيد الأساسية لخلق الظروف الأمثل لهذا الموضوع.
ما صار يعرف بمدرسة “اللجنة العربية لحقوق الإنسان” يشمل من المفكرين والمناضلين من طرح على نفسه مهمة بناء منظومة فكرية محددة الجوانب. منظومة عالمية المضمون، عربية الإطار، تؤسس لفكر حقوقي يسائل الذات والمحيط، يمتلك القدرة على الاستفسار الدائم عن الأصل والجذر والمبدأ، ويقرأ الأفكار والأوضاع والمؤسسات والأشخاص بعين نقدية. فكر حقوق الإنسان في مجتمعاتنا يختلف بهذا المعنى، عما يسميه فرانسيس بيران، مسؤول منظمة العفو السابق في فرنسا :”حزب حقوق الإنسان”. بمعنى المنظار المراقب لبعض انتهاكات حقوق الإنسان والشاجب لها. كما يختلف عن الحقوق المدنية، بالمفهوم الأمريكي، الرافضة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية. إنه عملية استقراء دائمة للأطروحات البشرية في نطاق الحقوق الإنسانية والبيئية، وقوة اقتراح وابتكار دائمة.
هذا العالم، الذي نصب حقوق الإنسان ماركة إجبارية لكل بضاعة تدخل سوق الفكر والسياسة، هو نفسه الذي وضع هذه المفاهيم في حقل الشك والضبابية والتعارض. كما أنه هو نفسه الذي خلق أكبر تفاوت جماعي في التمتع بالحقوق، والذي جعل الإنسان في عالم يتبنى أقوى منظومة للحماية في تاريخ البشر تتعايش مع أعلى قدر من الانتهاكات التي تمارس منهجيا وبشكل انتقائي وتمييزي يثير الاشمئزاز. لكل هذا، ثمة قدرة على الفعل في هذا المشروع التاريخي غير المنجز المسمى بحقوق الإنسان.
كيف يمكن والوضع هذا، أن نقيم اللحمة بين ثقافة التغيير واحترام الكرامة والحقوق الإنسانية لكي تكون، بالضرورة، محاولة لتخفيف البربرية في حياة البشر اليومية ؟ هذا هو السؤال الذي طرحناه ونطرحه على أنفسنا كل يوم، في كل بعثة تحقيق نقوم بها، في كل تقرير نعده، في كل كتاب يصدر وفي كل ملتقى يحاول الإسهام في الخروج من الوضع المأساوي السائد!
هذا السؤال يشكل محور انتقال منظمات حقوق الإنسان من مجرد واصفة وشاجبة إلى قوة تغيير. قوة تعيد الاعتبار لمحاسبة الجناة، ومقاومة معاول هدم تجسد الحقوق واقعا، وزرع البذور لنويات مستقبل يبصر في كرامة الإنسان، أي إنسان، سببا كافيا للبحث عن الذات في مفهوم للحقوق يرفض الحدود والقيود.

مداخلة قدمت لندوة ثقافة التغيير وتغيير الثقافة المنعقدة في مراكش