أبريل 16, 2024

التغيير الديمقراطي في سورية

قبل 15 عشر عاما، وضع مناع الأصبع على الجرح. شارحا كيف ارتكس الحاكم والمحكوم إلى العلاقات العضوية ما قبل المدنية وكيف انتشرت العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية انتشار النار في الهشيم، وكيف أصبح التصحر السياسي الملجأ الأفضل للأمان والخلاص الفرديين في وجه سلطات رفضت أي تناسب عقلاني بين الفعل النضالي وعسف العقاب.  بكلمة: كيف وصلنا إلى مجتمع مكسور الجناح ومعارضة سياسية مستأصلة الرئة. وكيف أن ضعف شخصية وشرعية الخلافة، قد أعطى أجهزة الأمن ومافيات الفساد فرصة لا سابق لها في التحرك دون محاسبة. ذكّر السلطة والمجتمع أنه “ليس لأننا جبناء نصرّ على الانتقال بدون خسائر، أو بأقل الخسائر، لكن لأننا نملك الجرأة والصدق مع أنفسنا ومع مجتمعاتنا. لا يوجد مثل واحد للانتقال العنيف في بلدان المحيط العولمي حدث دون تقهقر كبير في البنى التحتية والأمن الإنساني والقدرة على البقاء في الصراع، الذي لا يرحم، للاستمرار في وضع مقبول للدول والأشخاص”. نعم، نحن ممن يعتقد بأن التغيير السلمي هو الأنسب والأفضل للمجتمع السوري. وإن كان له من الحظ خمسة بالمئة، فهي تستحق المراهنة.

يتوقف مناع عند الطاعون الطائفي قائلا: اليوم، وقبل كل شعار آخر، لتكن لدينا الجرأة جميعا لنعلنها حربا واضحة على الطائفية. هذه أولى معالم إعادة اكتشاف الوطن المواطني والوطن المشترك. لنشجب أي استغلال أو استعمال أو توظيف للطاعون الطائفي من أي طرف جاء. لنرفض أي استقصاء أو استبعاد عن الحياة المدنية والسياسية وأي شكل من أشكال التمييز فيها. المجتمع المدني هش ويانع، أما عناصر الفتنة الطائفية فمتعددة ومتأصلة. فأي تهاون مع الخطاب الطائفي نقمة جماعية لن ينجو من وبائها أحد.

كذلك يحدد موقفه النقدي من النظم العلمانية التسلطية بالقول: ” لقد انتهت العلمانية التسلطية لفشل ذريع ولا بد من تحالف واسع يضم كل رواد الإصلاح الإسلامي والعلمانيين الديمقراطيين في حركة مدنية تطالب بدولة مدنية. أي تتفق على الطابع البشري غير المقدس للنشاط السياسي والأهلي في البلاد وتجعل الحقوق المدنية والسياسية وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان هدفا مشتركا لثقافة وطنية جديدة مشتركة”.

وأخيرا، يدعو أبناء وطنه للتحرك الشعبي المدني السلمي في وجه النظام:

“اليوم، وليس غدا، لتبدأ مسيرات العشرات السلمية ولتفتح الباب أمام مسيرات المئات والآلاف. فإن كان من ميزة لما تمر به المنطقة، رغم تعقيدات الوضع، فهي أن أنظار العالم تتجه إلى دمشق. الغد لمن يأخذ المبادرة والشوارع عطشى لأصوات الكرامة. ففي الشارع وحده ميزان حرارة الأوضاع المجتمعية والسياسية. التظاهر السلمي والاجتماع السلمي حق مقر يمارس، ولم يعد لأحد القدرة على منعه في القرن الواحد والعشرين”.

ألقى هيثم مناع هذه المحاضرة في المنطقة الباريسية (مالاكوف) في 06/05/2005، وقد آثرنا نشرها حرفيا كما وزعت يومها، دون أية ملاحظات أو تعديلات

(محررة كركدن.نت).

التغيير الديمقراطي في سورية

 الدكتور هيثم مناع

أرخ مؤتمر قمة مجلس التعاون الخليجي في الدوحة لبداية حقبة جديدة على صعيد الإعلام العربي. فقد تم تحييد الإمبراطورية الإعلامية القطرية بالنسبة لكل ما يتعلق بالمملكة العربية السعودية، الجديد في الحركة الفكرية النقدية في المجتمعات العربية اليوم أنها في عملية استجواب ومساءلة للذات والآخر، للممارسة والأفكار. لقد شبعت من التقليد والتبليد. لم تعد تعيش ترف التسطيح العام للأفكار والبرامج، بل صارت بحاجة للتعمق في الإنتاج كوسيلة وحيدة لصيرورة التفاعل الحقيقي مع مجتمعاتها دون مداهنة أو نفاق.

رغم طابعه السلبي والتعسفي، شكل ولوج الرأسمالية نقلة تاريخية نحو تفريد قطاعات واسعة من السكان انخرطت في المهن “الغربية” الجديدة في المدن. إلا أن النهضة لم تواصل مسيرة التنوير، إذ اكتفت بتحويل الأفكار والنظريات المطروحة في المخبر المجتمعي-الثقافي في الغرب- في معمعان تناقضاته وصراعاته- إلى إيديولوجيات. لقد تعاملت مع الداروينية والاشتراكية والديمقراطية والحداثة بوصفها وصفات جاهزة. في حين أنها مادة استعمال تتطلب عملية إعادة تعّرف نقدية صارمة تسمح بإنتاج معرفي ينبع مباشرة من الصراعات المعاشة.

كانت الثورة الفرنسية المثال الأهم للثوريين العرب، في حين أنها المثل الأسوأ الممكن أن يتم الإقتداء به من نماذج العلمانية الأوربية. فالإسلام لم يكن حجر عثرة أمام التحرر الوطني بل في صلبه. لقد فشلت المدارس السنية لحسن الحظ في بناء فاتيكان لها، وخاض آيات الله النائيني مبكرا في نقاش المشروطية أو الدستورية. ولم يحدث فرز موضوعي يجعل من الديني قوة مثبطة ومن العلماني قوة دافعة. بل كان التداخل والاختلاط وتناوب الأدوار أقوى مما نتصور. أفرزت المعرفة الدينية حينا رواد إصلاح نهضويين، كما أعطت العلمانية أحيانا أخرى أصولية منغلقة على ذاتها وعلى الإيمان الاجتماعي الثقافي. وفي الحالتين، لم تتم عملية التواصل بنجاح مع العتلات الفعلية للوعي الجماعي. فجرى حينا توظيفها لخدمة الإيديولوجية وأحيانا أخرى للمصالح الآنية.

كانت النهضة أيضا فرصة تاريخية لعودة الأقليات إلى التاريخ السياسي كطرف فاعل فيه. وانعكس فشل النخبة في التفاعل مع الجماهير الواسعة في تداخل مأساوي بين الحداثة واستقصاء الجمهور. هذا الجمهور الذي انتقم من عملية استقصائه بانكفاء على الذات وعلى الماضي، رافضا الحاضر الذي يحوله إلى قطيع للمستبد الحديث. فقد سقطت السلطة الثقافية الجديدة والسلطة السياسية الجديدة كلاهما في امتحان المشاركة والديمقراطية. كما وجدت النخب العسكرية والمدنية في السلطة الدكتاتورية الطريق الأقصر إلى “ثورتها”. كانت تظن أنها تحرق المراحل، فحرقت مجتمعاتها وبقيت المراحل.

لم تعد الأغلبية المهزومة والمهمشة تمتلك القدرة على الفعل التاريخي، أي أن تكون قوة جاذبة لكل مكونات المجتمع من أجل التغيير بالجميع مع الجميع من أجل الجميع. وبذلك ارتكس الحاكم والمحكوم إلى العلاقات العضوية ما قبل المدنية وانتشرت العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية انتشار النار في الهشيم. كلٌّ يحطم مقومات المجتمع المدني على طريقته وفي مستواه، السلطة الأمنية تحطم عناصر الارتكاز العامة (جمعيات، أحزاب، نواد ونقابات..) والمقموع-الفرد يقوم بتحطيم عناصر الارتكاز الخاصة (الأسرة ومحيطها). التصحر السياسي أصبح الملجأ الأفضل للأمان والخلاص الفرديين في وجه سلطات رفضت أي تناسب عقلاني بين الفعل النضالي وعسف العقاب.

في فشل السلطة التسلطية بعد الكولونيالية وفشل النهضة الثقافية المجهضة والمخنوقة من الحكومات ما جعل من التجهيل البرنامج السياسي الوحيد موضوعيا خلال عقود. برنامج يعيدنا لأيام سقوط الرجل العثماني المريض: كل العيون تطمع في الغنيمة وكل الأطراف تشعر بالحق الطبيعي في التدخل. ألا يقول المثل الشعبي: “المال الداشر (المباح) يعلّم الناس السرقة”! لكن المشكلة أن المال ثروات طائلة والسارق محترف.

تحطيم المجتمع وتجهيل الناس

ها نحن جيل يحمل كل ميراث الهزيمة المبكرة للاستقلال الأول والنهضة الأولى، أحيانا ببعض الدروس وأحيانا دون الخروج بأي درس. فالمجتمع مكسور الجناح والمعارضة السياسية مستأصلة الرئةكما أن إزمان التجهيل وسيطرة الخطاب الإيديولوجي على الصحافة والتعليم، إضافة لاشمئزاز الناس من التزلف واحتقار الذات والخوف الدائم في تعاملها مع جملة أساليب التواصل التي فرضتها الدكتاتوريات على الناس، كلها عوامل وغيرها خلقت عزوفا عاما عن القضايا المدنية والمواطنية والوطنية. بحيث دفع أكثر من جيل ثمن التدنيس المنظم للوعي.

لقد صمت الغرب “الديمقراطي” نصف قرن عن دكتاتورياتنا المعاصرة، بل اعتبر استمرارها من مقومات هيمنته الأساسية على المنطقة. كما ومارس معها أقذر الصفقات العابثة بكرامة الإنسان وضرورات التنمية وثروات الأمة.

من هنا ردها الصارم ليس على هذه الإدارة الأمريكية أو الأوربية، بل على عملية تدنيس الوعي التي كرسها التسلط. فلا يستغرب المرء اليوم أن يسمع عن ولادة حركة “ديمقراطية” لا تعرف الفرق بين الليبرالية والديمقراطية، أو أن يكون المتحدث باسم الديمقراطية الأمريكية الهوى أشد أعداء الحريات الأساسية. كذلك لا يستغرب أن تطلع علينا الصحف التي تحمد الليبرالية الجديدة دون التطرق لانتهاك واحد لحقوق الإنسان في مسقط رأس ممولها. والحال هذه، لا يستغرب أيضاً أن تتناسى النخب المتأمركة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية في مجتمعات يراد لها أن تكون مقابر جماعية لأطفال الجوع وقمامة بيئية للانتاج الواسع للتلوث في الشمال.

من نصائح حكماء العرب والفرس للسلاطين والحكام منذ الدولة الساسانية إلى الدولة العباسية نصيحة بأن لا يتركوا لمن بعدهم عجزا ماليا كبيرا أو نقمة شعبية أكبر أو ارتباطا مبالغ فيه للسلطة بشخصهم. لم يسمع أو يشأ أن يأخذ الجنرال الأسد بهذه النصائح، فأسرف في تفصيل الدولة على مقاس سلطته، ناسيا أن خلافته، لابنه أو لغيره، لن تكون يسيرة. من الصعب إلباس الثوب لشخص آخر. خاصة وأن مادة الطاعة الوحيدة عند الأجهزة الأمنية تنبع من عنصرين: الأول موضوعي، يتعلق بأمن الجماعة الحاكمة بالمعنى العشائري والطائفي، والثاني ذاتي، يقوم على الاستزلام الشخصي والموالاة المباشرة والإفساد المنهجي لضمان الطاعة.

في الأشهر الأولى لحكم الإبن، لعب العنصر الموضوعي دورا هاما. خاصة وأن قطاعات واسعة من المجتمع، من كل الطوائف والأديان والمناطق، انطلقت من المصلحة الوطنية العليا رافضة منطق الثأر أو الصراع المفتوح الذي لم تكن مهيأة له بأي معنى من المعاني. وحيث أن سورية من البلدان القليلة في العالم التي تم فيها تحطيم وتهشيم وتحييد النخب السياسية المعارضة بشكل منهجي خلال أربعة عقود. كان في هذا الإحساس الجماعي بالمسؤولية فرصة تاريخية للانتقال التدريجي من السلطة الأمنية العصبوية لدولة القانون. إلا أن ضعف شخصية وشرعية الخلافة، قد أعطى أجهزة الأمن ومافيات الفساد فرصة لا سابق لها في التحرك دون محاسبة. فتناست المجتمع والدولة والمصلحة الوطنية ووضعت مصالحها الضيقة فوق كل اعتبار، متكئة كالعادة على الخيار الأمني لمواجهة المشكلات المنظورة وغير المنظورة.

في مجتمع تعرض للتحطيم الممنهج لتعبيراته السياسية والمدنية، لا يوجد إنتاج واسع للكوادر والقيادات. يكفي شل قطاع منها بالسجن والحرمان من الحقوق المدنية والتجويع والنفي، للشعور بنوع من “الاطمئنان الكاذب” (ولكن الضروري!) لهذا النمط من ممارسة الحكم.

سورية ربيع دمشق امتلكت أهم أسلحة الدفاع الذاتي المعاصرة: المواطنة باعتبارها ترسانة الوطنية في القرن الجديد. لكن عوامل التغيير مازالت ناضجة داخل وخارج البلاد. وعندما نقول خارج البلاد لا نعني المشهد الكاريكاتيري للمرتزقة الجدد. وإنما الكوادر السياسية والثقافية النوعية. رجال الأعمال التواقين لتشغيل ما كسبوا في مسقط رؤوسهم، وطاقات كبيرة شردها القمع والتهديد في الأموال والحريات. هذه الجالية الكبيرة رفضت وضع الوطن في مزاد علني. وهي تستحق كل تسهيلات العودة لسورية جديدة. بلد لا ينتج العاطلين وأشباه البروليتاريين لجيرانه، بل موارد عمل جديدة ومجالات معرفة وأبحاث متقدمة.

ليس لأننا جبناء نصرّ على الانتقال بدون خسائر، أو بأقل الخسائر، لكن لأننا نملك الجرأة والصدق مع أنفسنا ومع مجتمعاتنا. لا يوجد مثل واحد للانتقال العنيف في بلدان المحيط العولمي حدث دون تقهقر كبير في البنى التحتية والأمن الإنساني والقدرة على البقاء في الصراع، الذي لا يرحم، للاستمرار في وضع مقبول للدول والأشخاص.

نعلم كل عاهات الوضع السائد ودقته وحساسيته. ونعرف أن من زرع الاستبداد لا يريد أن يحرق حقل الطغيان الناجم عنه. لكننا في حقبة لم يعد فيها للبنى القديمة إلا أن تقبل بالتغيير من تحت ومن الداخل. فالخارج يفضّل التعامل مع غيرها، ولو كان هذا الغير خيال مآته. بالتالي لدى السلطة السياسية الحاكمة مصلحة غريزية للعودة إلى الناس. كون خيار الخارج يحمل كل عناصر الثأر والانتقام (لم يقبل صدام بمصالحة المجتمع، فزرع أسس هدم العراق ومنطق اجتثاث البعث الانتقامي). في حين يحمل خيار الداخل كل عناصر المصالحة الحضارية القائمة على العدل والإنصاف.

من حق حزب البعث أن يحاول الخروج من المستنقع الذي غذاه بنفسه وحقنه بكل الطفيليات. لكن ليس من حقه أن يبقى في سجن شعاره (خلاص المجتمع بخلاص الحزب). فالحزب الواحد مات والقائد مات والأنموذج التسلطي تحول إلى نقمة عامة. بالتالي على الجبهة الوطنية التقدمية، إن أرادت أن تكون جزءا من الحاضر والمستقبل، وليس فقط الماضي المؤلم، أن ترى بعيون ذكية حاجتها الماسة للمعارضة. معارضة قوية متعددة الألوان والأطياف، تخفف من عقمها السياسي. معارضة كهذه، هي أس ديناميات جديدة على صعيد الإبداع السياسي والتفعيل المدني والمشاركة العامة للجميع من أجل الجميع. على حزب البعث إن أراد المشاركة في التغيير أن يستوعب فكرة حق كل أحزاب المعارضة في عقد مؤتمراتها هي أيضا في دمشق. وبكل حرية وبشكل علني يسمح بتلاقح الآراء والأفكار وسماع أكثر من لحن في سمفونية الحديث عن التغيير.

نعم، نحن ممن يعتقد بأن التغيير السلمي هو الأنسب والأفضل للمجتمع السوري. وإن كان له من الحظ خمسة بالمئة، فهي تستحق المراهنة. وإن كان من درس استطاعت التجربة اللبنانية حتى اليوم بلورته، فهو أن الشارع يتسع لمليونين، بل ولكل الشعب. كما لكل الهتافات، بما فيها فلتات طائفية هنا وعنصرية هناك. لكنه لا يتسع لجنازات جديدة. الديمقراطية هي المبارزة السلمية بين أطراف اختارت الكلمة سيفا. وإن كان من الطبيعي أن تفشل الثقافة التسلطية في زرعها، فمهمتنا أن نؤصلها بممارساتنا وخياراتنا اليومية.

هل المعارضة مؤهبة للعب دور تاريخي يتناسب مع خطورة المرحلة؟

-أولا، يجب الحديث عن المعارضة كتيارات لا كأحزاب. فالحزب الاشتراكي الإسباني كان سريا وصغيرا في ظل دكتاتورية فرانكو، لكنه كان يمتلك الكمون اللازم لحزب جماهيري في بيئة غير ملوثة بالدكتاتورية. لذا لا معنى للتعامل مع البنى الحزبية بصيغة ستاتيكية أو الإنطلاق من هياكل نهائية للتعبيرات السياسية القادمة.

-ثانيا، يفترض الحديث عن المعارضة كقوى استقطاب. هنا يمكن التطرق بشكل عام لضرورة القيام بخطوات نوعية من أقطاب المعارضة الثلاثة الأساس:

المعارضة الوطنية الديمقراطية العلمانية،

المعارضة الديمقراطية الكردية،

المعارضة الإسلامية.

نلاحظ اليوم أن بين أركان هذه التعبيرات حواجز موضوعية وذاتية. كذلك فارق في السرعة وفي النظرة لطبيعة العلاقة مع الجبهة الوطنية التقدمية والسلطة التنفيذية السورية.

هناك طرف في هذه المعارضة مازال يعتبر الأمن القومي قضية مركزية والخطر على الوطن يتطلب تحديد سقف المطالب. في نفس التجمع الذي يضم وجهة النظر هذه، هناك توجه ينطلق من أن لا وطن بلا مواطن ولا تحرير بدون حرية، وأن ما أوصلنا إلى الضعف الذي نحن فيه هو تضحيتنا بحقوق المواطنة على قربان الوطنية.

في الطرف الثاني، هناك توجه موجود عند بعض الأحزاب السياسية التي تعيش مخاض تغيير نوعي يقول: التنظيم قبل الحركة، فلنبني منظمة قوية لتصبح المعارضة قوية وفاعلة. نحن نتوجه لهذا الرأي بالقول: أحسن وسائل البناء الذاتي هي بالتفاعل مع البناء الموضوعي والحوار الجماعي داخل وخارج السقف التنظيمي.

أما في الثالث، فهناك توجه في صفوف بعض الأحزاب الكردية يقول: قضيتي أولا والقضايا الأخرى نناقشها مع من يتبنى موقفا واضحا من قضيتنا. بالمقابل، نحن وعدد هام من الديمقراطيين الأكراد يرد على أصحاب هذا الرأي: من أكثر العناصر ضررا على قضية أن تتحول من قوة جاذبة إلى قوة نابذة تبعد الأغلبية عنها.

في الطرف الرابع هناك توجه يقول: لنبني خارطة سياسية على الطريقة المصرية تبعد حركة الإخوان المسلمين وتتحاور لبناء المستقبل. نحن وعدد هام من العلمانيين الديمقراطيين نجيب: لقد انتهت العلمانية التسلطية لفشل ذريع ولا بد من تحالف واسع يضم كل رواد الإصلاح الإسلامي والعلمانيين الديمقراطيين في حركة مدنية تطالب بدولة مدنية. أي تتفق على الطابع البشري غير المقدس للنشاط السياسي والأهلي في البلاد وتجعل الحقوق المدنية والسياسية وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان هدفا مشتركا لثقافة وطنية جديدة مشتركة.

الفريق الخامس توجهه يقول: لا يوجد نظام ديمقراطي صرف كما لم تحدث في التاريخ ثورة طبقية صرفة. وبالتالي ليس من الممكن تحديد وسائل الانتقال مسبقا. غورباتشيف كان ابن النظام وضربه، ويلتسين هو ابن الحزب الشيوعي ومنعه. إذن هل يمكن استبعاد كل أطراف السلطة عن حوار التغيير ووسائله؟ مقابل ذلك من يقول: لن نبحث بالسراج والفتيلة عن مسئول متنور في سلطة فاسدة ومفسدة. نحن نعتقد أن التعامل مع السلطة السياسية لا يمكن أن يتم بمواقف جامدة ونهائية، وإنما وفق مبدأ التفكيك السلمي التدريجي للنهج الأمني ومقومات التسلط. بقدر ما تقدم السلطة من حريات، بقدر ما تنقذ نفسها والبلاد من شحنات العنف المتزايدة ومن عناصر الاضطراب التي أصبحت في صلب كيانها الداخلي والإقليمي. ذلك بسبب تعطيلها الإصلاحات السياسية ورفضها الحوار الجدي مع المجتمع ومصادرتها لحقوق الناس وتجميدها لقضايا أصبحت موجودة في متاحف الديكتاتوريات. من هذه القضايا : الاعتقال التعسفي وبقاء أكثر من 27 ألف منفي طوعي مع عائلاتهم وأبنائهم في ظروف لا إنسانية بدون أية حماية ومحرومين بشكل أمني من حق الجنسية والإقامة الطبيعية في بلدانهم (جواز سفر لكل سوري قرار في الاتجاه الصحيح في حال لم يستثن أحد. ولم يبتز فقراء اللجوء السياسي الماراثوني بضريبة المهجر القسري، فحتى تاجر المخدرات في دولة القانون له الحق في بطاقة تعريف شخصية..).

اليوم، وقبل كل شعار آخر، لتكن لدينا الجرأة جميعا لنعلنها حربا واضحة على الطائفية. هذه أولى معالم إعادة اكتشاف الوطن المواطني والوطن المشترك. لنشجب أي استغلال أو استعمال أو توظيف للطاعون الطائفي من أي طرف جاء. لنرفض أي استقصاء أو استبعاد عن الحياة المدنية والسياسية وأي شكل من أشكال التمييز فيها. المجتمع المدني هش ويانع، أما عناصر الفتنة الطائفية فمتعددة ومتأصلة. فأي تهاون مع الخطاب الطائفي نقمة جماعية لن ينجو من وبائها أحد. إن الصورة الجميلة التي تحاول الإدارة الأمريكية تقديمها لمجتمع يربط الكارتل المسيطر فيه الهوية السياسية بالانتماء الطائفي والقومي لا بالمواطنة في العراق، هي صورة كارثية لمستقبل الديمقراطية في هذا البلد. وهي تشكل الأنموذج الأردأ لمجتمع شبه برلماني شكلي يمازج بين الليبرالية المتوحشة والانتماءات العضوية قبل المدنية. عندما يختزل المجتمع إلى أبناء عشائر وطوائف وأقوام وتختصر الدولة إلى غنيمة، يصبح العامل الخارجي طرفا وحكما في كل أزمة. هذا الأنموذج لا يمكن لأية طبقة سياسية حكيمة أن تقبل به في أي تحول نحو الديمقراطية.

لتكن لدينا الجرأة أيضا على رفض كل القرارات والأطروحات الشوفينية بأية حجة كانت ومهما كانت الدوافع. فالأمن القومي هو ابن الأمن المواطني. والمفهوم الجديد للسيادة يقوم كل حقوق الإنسان للجميع فيما يشمل: الحقوق الجماعية للشعوب من جهة، والقدرة على صهر الطاقات في دولة لكل مجتمعها، كأساس لشعور المجتمع كله بأنه ينتمي للدولة من جهة ثانية. دولة تكون أغلبيتها قوة جاذبة لأقلياتها وضمانة لحقوق الأفراد والجماعات كافة. فهناك فرق شاسع بين جعل البرنامج الديمقراطي عدميا وممسوخا، وبين صيرورة هذا البرنامج قاعدة لإعادة بناء مشروع حضاري جديد قادر على الفعل التاريخي في عالم الكيانات الكبيرة. فكما يقول جهاد الخازن: ” لا أعتقد بأن عربياً يستحق اسمه يقبل ديموقراطية مفصلة على قياس مصالح أميركا واسرائيل كما رأينا في فلسطين والعراق، وكما قد نرى في كل بلد تريد الادارة الأميركية فرض رأيها عليه”.

أخيرا وليس آخرا، اليوم، وليس غدا، لتبدأ مسيرات العشرات السلمية ولتفتح الباب أمام مسيرات المئات والآلاف. فإن كان من ميزة لما تمر به المنطقة، رغم تعقيدات الوضع، فهي أن أنظار العالم تتجه إلى دمشق. الغد لمن يأخذ المبادرة والشوارع عطشى لأصوات الكرامة. ففي الشارع وحده ميزان حرارة الأوضاع المجتمعية والسياسية. التظاهر السلمي والاجتماع السلمي حق مقر يمارس ولم يعد لأحد القدرة على منعه في القرن الواحد والعشرين.

لقد تكرر على أسماع كل من يرغب فعلا بإنقاذ البلاد من الطريق المسدود الذي تسير فيه: أن إعادة الجنسية للمحرومين منها تتطلب قرارا من رئاسة الجمهورية تستغرق صياغته القانونية عشر دقائق. إلغاء القرارات الإدارية العنصرية في مناطق الأغلبية الكردية في سورية تتطلب تعميما يلغيها من وزير الداخلية. إعادة الحقوق المدنية والاعتبار لكل سوري شرط أساسي لقبول فكرة مبارزة شريفة مع الخصم السياسي. التعويض للمعتقلين السياسيين والمتضررين في دمائهم وأموالهم وأعمالهم جزء لا يتجزأ من عودة الدولة السورية كحكم بين المجتمع والسلطة التنفيذية، لا كوسيلة سيطرة للأخيرة.

إعادة بناء الثقة مع المجتمع تتطلب اليوم، وهذا أضعف الإيمان، تعديلا دستوريا يشبه ذلك الذي نصّب بشار الأسد رئيسا، أي غير سلحفاتي. تعديل يستبعد المقدمة الإيديولوجية للدستور ليصبح لكل السوريين. يلغي هيمنة حزب البعث على الدولة والمجتمع ويقر التعددية السياسية والانتخابات الرئاسية ويؤكد على علوية الالتزامات الدولية السورية في مجال حقوق الإنسان.

لكن كل ما حدث ويحدث حتى اللحظة هو غياب القرار السياسي والأمني للإصلاح. وهذا الغياب ليس فقط نقمة على المجتمع، كما كان الحال سابقا، بل هو اليوم نقمة على الجميع. كما أنه تعزيز لخيار الاستعمار الثاني على حساب الاستقلال الثاني. فهذا الوقت المقتطع من تاريخ سورية بات مسؤولية كبيرة تتحملها السلطة التسلطية وحدها، حيث أن بوادر حسن النية من كل أطراف المعارضة لم تتوقف منذ وفاة الجنرال حافظ الأسد.