أبريل 25, 2024

الديمقراطية وحقوق الإنسان في العراق تحت الاحتلال

serjioكان يتحدث باندفاع الشبيبة وخبرة الكبار، مع ثقة بالمستقبل في وضع يغتال الثقة من النفس والعقل، اسمحوا لي أن أقدم هذه المحاضرة هدية عزاء بفقيد العراقيين والأمم المتحدة، سيرجيو دي ميللو الذي أحب العراق وحرم من رؤيته مستقلا.

 لم يخطر بتصوري يوما، أن مقاطعتي لزيارة العراق في ظل حكم صدام حسين واشتراطي موافقة السلطات العراقية على أن تكون زيارتي لهذا البلد في بعثة تحقيق حول انتهاكات حقوق الإنسان، سيترتب عليه زيارة إلى بغداد وهي ترزح تحت ظل أول احتلال في القرن الواحد والعشرين، ولعل في هذا الحدث المأساة، ما يفسر الرغبة الجامحة في اكتشاف مجمل معالم التراجيديا العراقية، كي لا نسقط في ثنائية صدام-بوش أو خفة الاتهام السريع لأي طرف داخلي في المعادلة العراقية. فعندما لا يشعر المرء بدرجة الحرارة العالية في الصيف البغدادي وغياب التلفون الدائم والكهرباء والماء بشكل متقطع ويخجل من النوم في فندق تكلف الليلة فيه مرتب عائلة عراقية متوسطة الحال، يكون قد دخل في المجتمع العراقي كطرف غير محايد، وبالتالي لا يمكن أن تكون العقلانية المؤشر الوحيد لكل ما يفعل ويستنتج.

 لم تحرمنا الأنظمة العربية الشمولية من فصل السلطات وتوسيع الفضاء غير الحكومي ونشوء المقومات الأساسية للسلطة الرابعة، بل أيضا من الوعي المدني والحقوقي والسياسي. مما خلق حالة عدم توازن تغلبت فيها البنى العضوية التاريخية على البنى المدنية، وروح الثأر على روح العدل، كما وتأصل خوف السلطة أو القوة حتى لو كانت مجتمعية وجعل الشأن العام يطرح من منظور التأميم لا منظور التعميم. باختصار، لقد مست عملية تدنيس الوعي وتشويه العقل البشري كل الأعمار وكل مراحل التعليم.

كما شّوه الخطاب الديني الموظف روح الأديان،  قََتَلَ “الخطاب الوطني” الوطنية والمواطنة وجرّد الناس من مكتسبات عصرهم التي جعلت من تكريم الإنسان وحماية حقوقه قاسما مشتركا أعلى للشعوب الطامحة لدور في هذا العالم. وصل الأمر في النهاية إلى يأس من نهاية النفق جعل من مأثورة “فليأت الشيطان” برنامجا سياسيا رد فعلي لعدد غير قليل من الناس.

هذا الإلغاء للآخر ولحق الاختلاف جعل الاستئصال من مقومات الخطاب السياسي العام ومن الإنتاج الواسع للعنف السلطوي وسيلة تعميم للعنف على كل المستويات. إن العقوبات الجماعية القائمة على الحقد والتعالي ونظرة الازدراء إلى المجتمع ألغت مفهوم الشخص والمسؤولية الفردية. فصار الانتقام الجماعي مقبولا في مجتمع رزخ أكثر من 30 عاما تحت وطأة العقوبة الجماعية، فقد تعمم نهج الطاغية ليمس الخلايا الاجتماعية. إن إصرار الحاكم على ارتكاب الجريمة باسم الناس ينتهي لشعور جماعي يقبل أي عقاب بحق من جرد هذه الجموع حتى من إنسانيتها ومدنيتها، بل حتى حقها في ملف شخصي عادي. فليس هناك ربة بيت تسهر على عائلتها أو عامل تنظيفات يقوم بعمله بصدق وأمانة، أو أشخاص يذهبون من العمل للبيت ومن البيت للعمل. في المنهج الشمولي، هناك فقط من هو معنا ومن هو ضدنا. هذا الأمر ينتج مع الوقت عصابا جماعيا يربط كل شئ بالطاغية وبطانته. وحيث أن هذه الطاغية تنسب لنفسها الخير ولغيرها الشر، فسقوطها يعني عكس الآية بشكل أتوماتيكي، حيث الدكتاتورية تصبح مصدر كل الشر سواء كانت سببا فيه أو لم تكن.

ليس موضوع هذه المحاضرة إعلان الحرب وجريمة العدوان في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، فمن المعروف أن احتلال العراق كان دون أي غطاء قانوني دولي بكل المعاني، وأن واجب المنظمات غير الحكومية ملاحقة كل من ارتكب جرائم حرب حيث تستطيع. أما هنا، فسنحاول التوقف عند ما يمكن تسميته البحث المشترك للدول العظمى عن “شرعية الحد الأدنى” للتعامل مع الأمر الواقع ومدى انسجام هذه “الشرعية” مع مستقبل ديمقراطي يحترم حقوق الإنسان في العراق. إذن، هذا البحث السياسي لا يعطي الواقع شرعيته من وجهة نظر الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، وإنما يهدف لاستقراء سقف التصورات القائمة على التعامل معه كأمر انتقالي واقع. لقد قامت الولايات المتحدة بضغوط لا سابق لها لاستصدار القرار 1483 عن مجلس الأمن بعد احتلال بغداد وناقشت كل مواضيع السيادة العراقية بدون أي طرف عراقي، حتى ذاك الذي اعتلى دبابتها للعودة. واستطاعت الدول الرافضة للاحتلال أن تضمن في النص اعترافا صريحا بالاحتلال وبالتالي التزاما على الورق على الأقل بما يترتب على هذا الوضع من التزامات على الدولة المحتلة.

كان السبب المعلن لهذا الاحتلال تدمير أسلحة الدمار الشامل لبلد من بلدان محور الشر ولكن أيضا بناء نظام سياسي ديمقراطي يضع حدا لمأساة الشعب العراقي، وإن كانت أسطورة أسلحة الدمار الشامل لا تنطلي على ناطق بالعربية يعرف معنى هذا المصطلح ومدى احترامه فيما يتعلق بدولة على مرمى حجر من العراق: إسرائيل، فإن شعار التغيير الديمقراطي يبقى يدغدغ الأفئدة والعقول باعتباره الغطاء “الأخلاقي” الضروري للعدوان، بعد أن تلازمت إهانة المواطنة مع توطد النظام الاستبدادي العربي ما بعد الكولونيالي.

لقد زعزع أسلوب التغيير الذي حصل في العراق كل المفاهيم السياسية العادية: فأساس العمل لأي تنظيم سياسي أو مدني هو استقطاب الناس في البلد من أجل التغيير بوسائل سلمية أو عنفية. أي التغيير من الداخل ومن تحت. في حين ما جرى في العراق، هو التغيير بالقوة من الخارج ومن فوق. الأمر الذي يجعل تكوين الجهاز الجديد يخضع للطابع الإرادوي للحاكم وجنوحات العسف والفساد في المال والإدارة التي ترافق غياب المحاسبة في وضع مشابه، أي أهم أمراض السلطة التسلطية البائدة التي تصبح المرجع في أن الأمور لم تصل إلى السوء الذي كانت عليه. من هنا ضرورة التأكيد على بناء النسيج المدني الاجتماعي والمبادرة التحتية والتغيير من الداخل كرد موضوعي يضمن للمجتمع العراقي أفرادا وجماعات الحقوق الأساسية الدنيا التي يطمح لها الأشخاص والشعوب في القرن الواحد والعشرين. خاصة وأن المواطن العراقي حيوان سياسي حرم من حق الطعام إلا عبر السلة الغذائية ومن الحماية إلا عبر الشبكة العضوية ومن اكتشاف العالم إلا عبر مسارب الديكتاتورية المسموح بها بعثيا لملامسة ثورة الاتصالات. لكن وعي هذا المواطن بكل ذلك، هو الذي يحول دون أن يلعب دور المومس التي تعرض جسدها في سوق الاحتلال، وبهذا المعنى، لم يفهم العقل المدبر لما يمكن تسميته اليوم بأريحية التورط الأمريكي، أن العراقي يعرف ما هي الديمقراطية قبل ولادة دولة إسرائيل وهو يدرك مفهوم الاحتلال منذ ثورة العشرين ويعرف معنى الحضارة من ما قبل الإسلام، أي أن الذاكرة الجماعية لشعب كهذا لا يمكن لا لصدام أو للاحتلال اختزالها بمآسي الحقبة الصدامية.

يمكن أن نستشرف ثلاثة آفاق لا سابق لها من التورط الأمريكي في العراق هي في صلب ومبررات نشأة الأمم المتحدة والمجلس الاقتصادي والاجتماعي:

1- كانت الغاية المعلنة لأطراف التحالف إسقاط الحكومة لا إلغاء الدولة، وعلى العكس من ذلك فهي تؤكد في كل تصريحاتها ومواقفها على وحدة أراضي الدولة وسيادتها. الأمر الذي يعني في القانون الدولي أن جملة التزامات هذه الدولة (الجمهورية العراقية) على صعيد حقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي تبقى مرجعا علويا بالنسبة لمنظمات حقوق الإنسان . وأي قرار من سلطات الاحتلال يخالف هذه المرجعية، غير ملزم لنشطاء حقوق الإنسان. كما أن قرارات أية دولة دكتاتورية في العالم تخالف الشرعة الدولية موضوع استنكار وشجب من قبل المدافعين عن حقوق الإنسان، قرارات الاحتلال المخالفة لا يجوز السكوت عنها، على سبيل المثال، قد يبرر الحاكم العسكري التعذيب بحجة العمليات العسكرية ضد قواته، كما تفعل قوات الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، فكيف يمكن السكوت على ذلك والتعذيب محرم وجريمة لا تزول بالتقادم مهما كانت الذريعة. كذلك فإن محاسبة قوات الاحتلال على جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية حق من حقوق كل مواطن عراقي كان ضحية لإحدى هذه الجرائم. سواء في الاختصاص الجنائي العالمي أو في المحكمة الجنائية الدولية (باعتبار بريطانيا واستراليا قد صدقتا على قيام المحكمة). ومن مهمات، حتى لا نقول واجبات العاملين في حقوق الإنسان الدفاع عن استقلال السلطة القضائية والسلطة الإعلامية  (الرابعة) باعتبارهما طرفا أساسيا في التكوين السليم لسلطة تنفيذية وسلطة تشريعية أكثر ديمقراطية. ومن مهماتها تعزيز حقوق المواطنة قبل التشكل الاسمي للسيادة.

2- بعكس ما يدعيه الحاكم بريمر والناطق باسمه، من أن القرار 1483 يعطي قوات الاحتلال سلطات لا حصر لها، فإن المادتين الرابعة والخامسة تحفظا ما تبقى من ماء الوجه للأمم المتحدة عبر إلزام الجميع بالقانون الإنساني الدولي والالتزامات الدولية الأخرى حيث نصتا على:

–    –    –     يطلب من السلطة أن تعمل، بما يتسق مع ميثاق الأمم المتحدة والقوانين الدولية الأخرى ذات الصلة، على تحقيق رفاه الشعب العراقي عن طريق الإدارة الفعالة للإقليم، بما في ذلك بصفة خاصة العمل على استعادة الأحوال التي يتوفر فيها الأمن والاستقرار، وتهيئة الظروف التي يمكن للشعب العراقي أن يقرر بحرية مستقبله السياسي.

–    –    –    يطلب من جميع المعنيين أن يتقيدوا تقيدا تاما بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي بما في ذلك بصفة خاصة اتفاقيات جنيف لعام 1949 وقواعد لاهاي لعام 1907.

 3-  تسمح لنا التجربة العراقية بأول تجربة عربية وشرق أوسطية مفتوحة للمحاسبة. هذه التجربة قد تكرر ما حدث في إيران أو سورية أو غيرها من البلدان حيث غاب القانون الدولي ومبادئ حقوق الإنسان باسم إيديولوجيات انتصرت واستلمت السلطة وعاقبت من منظورها السلطات البائدة. وعندها نكون في حلقة مغلقة تكرر المآسي نفسها. أو تقوم على مبدأ رفض انتقام الغالب واستعمال القانون الاستثنائي وهيمنة الطابع العسكري على أية محاسبة. صحيح أن المنظومة العالمية لحقوق الإنسان هي انعكاس لموازين القوى في بناء أشادته الدول والهيئات بين الحكومية، ولكنها لم تعد ملكا لمن أنجبها وبدأت تتطور خارج هذا الفضاء وأصبحت قوتها المركزية اليوم في المجتمعات المدنية على الصعيد العالمي. لذا وضمن المعطيات العالمية لمحاسبة حقب الطغيان، وضمن وجودنا أمام حالة أنموذجية للعسف وارتكاب الجرائم الجسيمة الكبرى، نعتقد بأن مجرد التفكير بمحكمة من قبل الاحتلال أو محكمة استثنائية هي إهانة لضحايا صدام حسين، وسلوك لا يمكن قبوله من قوات الاحتلال التي قد تلجأ لهذا الأسلوب للسيطرة على المحاكمات وعدم الضرر بأشخاص ارتكبوا جرائم كبيرة هم اليوم في حمايتها. إن التكريم الحقيقي لأهالي الضحايا والكرامة العراقية يكون بتشكيل لجان تحقيق مستقلة وقضاء عادي مستقل يعتمد الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والتزامات العراق الدولية لتكون هذه المحاكمات أمثولة للعرب والعجم، الشمال والجنوب. لقد باشرت مجموعات ناشئة لحقوق الإنسان والدفاع عن الضحايا مهمة التوثيق والتنقيب في المقابر الجماعية. وسنسعى جهدنا لإرسال خبراء في البحث المتعدد الميادين في قضايا المفقودين للاستفادة من تجارب دول أخرى. وكم نتمنى أن يكون العراق التجربة الأولى في العالم للمحاسبة وفق الشرعة الدولية لحقوق الإنسان. عندها يمكن زراعة البذور السليمة لإعادة بناء المجتمع المدني في العراق وأسس دولة القانون.

 من هذه المنطلقات القائمة على أسس الشرعية الدولية وما أقرت به قوات الاحتلال نفسها، حاول المرحوم سيرجيو دي ميللو أن يدافع عن أطروحة مفادها أن قوات الاحتلال قد جهزت كل شئ للحرب ولم تعد شيئا للسلم، وهي بحسن نية أو بسوء نية، لا تملك الإجابات الضرورية للرد على الأسئلة المتعلقة بإعادة بناء الدولة والمؤسسات والبنية التحتية الاقتصادية، أما المشكلات الاجتماعية فلم يكن لديه أوهام حول قدرة الإدارة الأمريكية على مجرد استيعاب الفكرة. في وضع كهذا، الولايات المتحدة بحاجة للأمم المتحدة وليس العكس، هذه الحاجة هي التي تسمح للأخيرة بأن تكون لاعبا أقوى مما هو مطروح عمليا عبر ما يمكن تسميته: القراءة الحقوق إنسانية للقرار 1843، أي القراءة التي تعتبر احترام المواد الخاصة بالكرامة الإنسانية والحقوق والحريات الشرط الأساس لجعل عملية الانتقال تتم بأقل الخسائر للجميع. لذا كان يكرر دون ملل أو كلل للأحزاب العراقية الجديدة, “أعرف أزمة الثقة عند الشعب العراقي مع كل ما هو أمم متحدة وهو محق بذلك، ولكن اليوم هذه الأمم المتحدة هي السبيل الأفضل لتخفيف المعاناة في فترة انتقالية لقوات الاحتلال، ولكن دور الأمم المتحدة مرهون بمدى مطالبة القوى السياسية العراقية والمجتمع المدني بهكذا دور”. وضمن هذا الوضع المعقد، حاول دي ميللو انتزاع ما يمكن انتزاعه من إدارة أمريكية متشنجة وغير قادرة على استعمال المواهب العقلية الطبيعية لأية سلطة احتلال. الأمر الذي منحه ثقة أهم الأحزاب السياسية في البلاد داخل وخارج المجلس الانتقالي وهمّش، رغم كل السلطات التي نالها بريمر بالقرار الأممي، فكرة استمرارية الدور الأمريكي السياسي المستقبلي في العراق بتأصيل فكرة جديدة تقوم على قدرة هذا الشعب على حكم نفسه بنفسه في فترة لا يظنها بعيدة إلا الملتزمون الأشاوس بالأجندة الأمريكية ( مدرسة شلبي، علاوي والطالباني).

 القراءة الأمريكية للأمور كانت مختلفة تماما،  فبالنسبة لها، ما يمكن تسميته “الأنموذج الأمريكي للتغيير الديمقراطي في العراق” أنموذج مرتبط حيويا بالمشروع الأمريكي، وكما تلخص كوناليزا رايس، أحسن من يساعد على تطبيق المبادئ التي حملتها أمريكا للعالم هم الأمريكيون، وبالتالي، كان بريمر يرى في الأمم المتحدة عجلة من عجلات سيارة الاحتلال الأربع التي وإن كانت ضرورية لسير الحافلة، فهي لا تملك الصلاحية في الحديث عن العجلات الثلاث الباقية وعن الوقود وسرعة السير والطريق الواجب اتباعه. هذا التصور المختزل لم يكن له أن يستمر بوجود سيرجيو دي ميللو، الذي وإن كان غير قادر على التعويل على مؤسسة عالمية لها مشكلات بنيوية وجيو سياسية معقدة، إلا أنه كان على ثقة بأن هناك أغلبية عراقية ستختار التحول السلمي لإنهاء الاحتلال بقدر ما يتوقف هذا الاحتلال عن اعتبار العراق سوق مناقصة للمشاريع الاقتصادية وبئر نفط ورعاع. وبفضل العمليات المسلحة المناهضة للاحتلال ووتردد عدد هام من الأحزاب السياسية في الانضمام لمجلس الحكم الانتقالي، اضطر بريمر للتعامل مع سيرجيو ديميلو والقبول بالعديد من اقتراحاته.

شكلت زيادة تأثير دور الأمم المتحدة خطرا على لوبي الحرب والنفط وجماعات الضغط الصهيونية التي فعلت كل شئ من أجل العودة بقوة لفكرة التطبيع الاقتصادي والسياسي مع إسرائيل والاستثمار الواسع في العراق والمشاريع الجبارة للكسب السريع وغير ذلك. وليس من الغريب في وضع كهذا أن نسمع يوم تفجير السفارة الأردنية في بغداد إعلان الناطق الرسمي باسم المؤتمر (الشلبي) عزمه على تشكيل لجنة تحقيق للكشف عن الجناة، علما بأن مهمة كهذه ليس لحزبه أي صفة قانونية أو سياسية للمبادرة لها.

لقد بدأ الاحتلال بلحظات الفوضى والخوف التي جعلت غياب الأمن مشكلة في صفوف المواطنين العراقيين، ثم بدأ المجتمع العراقي بالرد على غياب الأمن هذا بوسائله البسيطة والمحلية، وكون ذلك قد ترافق مع عمليات مسلحة ضد قوات الاحتلال الأمريكي بشكل أساسي، فقد انتقل مركز الثقل في غياب الأمن إلى معسكر قوات الاحتلال، ومنذ وقوع ثلاثية الرعب (السفارة الأردنية، الأمم المتحدة، عملية الحكيم) بدأت مرحلة جديدة تساوى فيها الجميع في  عملية تعميم غياب الأمن في العراق.

هنا دخل العراق في مشكلة حقيقية وسؤال كبير: من يقتل من ومن يفجر هنا ومن يقاوم هناك؟ وهل أصبح النموذج الجزائري متبعا منذ حرصت المقاومة الغريزية العراقية على قتل الأمريكي مهما كان لونه أو جنسه أو موقعه وتجنب العراقي مهما كانت طائفته أو حزبه أو موقعه؟ من المستفيد من حالة تعميم غياب الأمن على الجميع؟

 يمكن القول دون تسرع أن المستفيد الأول من سياسة تعميم غياب الأمن على الجميع هو الولايات المتحدة، لأن هذا التعميم:

1-  يخترق المنهج التحليلي المنطقي للأشياء القائم على اعتبار الفشل في إدارة “السلم” هو المنتج الأساسي للمقاومة والعنف.

2-  يعطي فكرة إنهاء الأوضاع المسلحة والقضاء على كل من اختار العنف سبيلا للمقاومة وضرب كل الأوساط التي ترفض المشاركة في مواجهة العمل المسلح انتسابا يتجاوز قوات الاحتلال والنخبة الملتفة حولها إلى نطاق مجتمعي أوسع لأن المجتمع وليس فقط قوات الاحتلال مهدد بالعمليات المسلحة.

3-  يمنح قوات الاحتلال بطاقة ترخيص للقيام بكل انتهاكات حقوق الإنسان دون رقيب أو محاسب: اليوم عدد المعتقلين في العراق الأمريكي هو عشر أضعاف المعتقلين في سورية البعثية، التعذيب في المعتقلات الأمريكية في العراق يفوق نظيره في البلدان العربية، اقتحام البيوت وهدم بعضها والقتل العشوائي (الاحترازي؟)  لا مشابه له إلا في إسرائيل. لأول مرة في تاريخ العراق تفرض كوتا طائفية على المؤسسات السياسية ويصبح تعريف الشيوعي والمستقل والقومي والإسلامي ابن الطائفة التي جاء منها. وأنكد من ذلك، من يستطيع تشبيه شبكة الإعلام العراقية التي تشرف عليها قوات التحالف بإعلام الحزب الواحد، وضحايا صدام لم تتحلل جثثهم بعد.

اليوم، كل عناصر الحرب الأهلية في العراق متوفرة وكل عناصر الانقسام أيضا. الشعب العراقي مخير عبر قوات الاحتلال بالانصياع أو الغياب عن الخارطة السياسية كشعب ودولة. هذا هو الأنموذج الذي تقدمه قوات الاحتلال وترغب بتعميمه على المنطقة باسم بناء الديمقراطية في المنطقة.

فيما يلي، للمثل لا للحصر، بعض العينات من التصرفات العشوائية لقوات الاحتلال التي جعلت من العراق البلد الذي يعيش أعلى نسبة اعتقال في فترة زمنية تقل عن نصف عام. من يدافع عن المواطن الذي يتم احتلال منزله وتسرق أشيائه، ألم تجبر محكمة عراقية في الرمادي على تأجيل جلسة تطالب بمحاكمة قوات الاحتلال على قصف منزل آمن في اليوم نفسه الذي حكمت فيه محكمة أمريكية بأكثر من نصف مليار دولار لكل أسير أمريكي في العراق لسوء معاملته من نظام صدام؟  من يحاسب في قضية المسجد الذي يفتش وتؤخذ منه الأوراق النقدية والوثائق كأمر عادي (كما حصل في مسجد حذيفة بن النعمان) وهل لأن هذا الشخص ليس من حارتنا أو عائلتنا أو طائفتنا أو حزبنا فهو بعثي أو مخرّب؟ من يراجع في أوضاع المعتقلين العراقيين العشرة آلاف وهل هناك ما ينفي رأي منظمات حقوق الإنسان بأن وجود تسعة أعشارهم تعسفي. من يجرؤ على الحديث عن ضباط المخابرات العراقية الثمانية عشر الملطخة أيديهم بالمقابر الجماعية والموت تحت التعذيب الموجودين في فريق بريمر؟  ألا تحظر العقوبات الجماعية وبالمثل جميع تدابير التهديد أو الإرهاب وتدابير الاقتصاص من الأشخاص المحميين وممتلكاتهم (المادة 33 من اتفاقية جنيف الرابعة). في بيان صادر عن قوات الاحتلال بعلاقة بعمل أي موظف في قطاع الدولة هو ورقة براءة من حزب البعث يعلن نهايته ونهاية نظامه وينص فيما ينص على: “أقر واعترف بأن أي تعامل أو اشتراك مع حزب البعث أو المشاركة في فعالياته سيكون نقضا لأوامر قوات التحالف. وأتعهد بالتعاون الكامل مع قوات التحالف لخدمة الشعب العراقي وبناء حكومة عراقية جديدة. وسوف أطيع كافة القوانين العراقية والأوامر والتعليمات الصادرة عن قوات التحالف وأشهد الله على ذلك” (توقيع مع شاهدين).

يعتبر إجبار السكان على التعاون والتعامل والطاعة في المناطق المعتبرة محتلة إخلالا بالعرف الدولي والقانون الإنساني الدولي. والمصيبة أكبر عندما تربط لقمة العيش بالتعامل مع قوات الاحتلال. وقد جاء في المادة 52 من اتفاقية جنيف الرابعة:”تحظر جميع التدابير التي من شأنها أن تؤدي إلى بطالة العاملين في البلد المحتل أو تقييد إمكانيات عملهم بقصد حملهم على العمل في خدمة دولة الاحتلال”. وينص القرار 1483 في المادة الخامسة منه على احترام اتفاقيات جنيف! فهل تسكت منظمات حقوق الإنسان عن هذا؟

 بعد عودتي من العراق الجريح، شعرت بأن الحديث في السياسة اليوم عربيا يتطلب أولا فك الارتباط بين النضال الديمقراطي في العالم العربي والإدارة الأمريكية، فك الارتباط بين مفهوم الوطن والسلطات التسلطية، وفك الارتباط بين الخطاب الإسلامي والخلافة القرون وسطية وأخيرا فك الارتباط مع الخطاب المتحجر غير القادر على التأسيس لوسائل نضال أرقى لعالم مختلف.

 ألقيت هذه المحاضرة في المنامة، بدعوة من الجمعية البحرينية لحقوق الإنسان، 30/09/2003