أبريل 18, 2024

الصراع العربي الإسرائيلي والتغيير الديمقراطي في سورية

Mideast Syriaأعاد العدوان الإسرائيلي على لبنان (وهذه هي تسمية ما حدث في القانون الدولي لحقوق الإنسان) النقاش حول موضوعات المواطنة والوطنية والعلاقة بينهما. ولا شك أن الاستبسال القتالي لمجموعات من حزب الله (الذي تتجنب وثائق إعلان دمشق ذكره بالاسم منذ بداية الأحداث) قد أعادت للوجود عدة معان تعرضت للبهتان إن لم نقل الاغتيال مثل حق المقاومة ورفض أسطورة التفوق العسكري على الإرادة الإنسانية والعلاقة الجدلية بين برنامج وطني تحرري وبرنامج ديمقراطي اجتماعي. وما زاد في الطين بله, الخطاب الرسمي السوري المبتذل في الحديث عن المقاومة في وقت تضرب فيها أجهزة أمنه كل بذور مقاومة الفساد والاستبداد داخل حدود البلاد. ولا شك أن وضعا معقدا كهذا ذكرني بمحطات هامة للمعارضات العربية كانت تختار فيها موقفا كيديا من حاكم مستبد أكثر منه موقفا وطنيا أو مواطنيا ينطلق من جملة عناصر الصراع والمصالح الأولية لمفهومي الوطن والمواطن.

فالعديد ممن وقف مع صدام حسين عشية احتلال الكويت وقف موقفا صامتا إن لم يكن مؤيدا لاحتلال العراق.. وللحقيقة، فما يسمى بسياسة رد الفعل الكيدية هي ابنة طبيعية للأوضاع الاستبدادية المزمنة التي تجعل موضوعة (فليأت الشيطان..) برنامجا سياسيا.

لقد رغبت بالكتابة أكثر من مرة عن مواقف أطراف في إعلان دمشق من العدوان الأخير. ولكنني جزء من هذا الإعلان واعتبره أول محاولة جدية لكسر جمود السنوات التي تبعت خريف دمشق القمعي. الآن وقد أصبح لإعلان دمشق صوت “النداء”، يمكنني أن أتحدث بأريحية في منزلي بشفافية وصراحة لأننا في بيت ديمقراطي لا في محفل ماسوني.  

تمخض عام 2005 عن أحداث هامة في تاريخ لبنان، أهمها كما ذكرت آنذاك، فشل النهج الأمني كمنظم للعلاقات العربية- العربية. وتعبئة مليونية في كتلتين سياسيتين هائلتين دون سقوط جريح واحد. كان المشهد المأساوي في استرخاص أرواح عمال سوريين وقعوا ضحايا الأزمة الاقتصادية لنظامهم السياسي وضحايا سياسته الأمنية في لبنان مع ما ترتب عليها من ردود فعل شوفينية وعنيفة. إلا أنني بصراحة لم أر في أحداث لبنان يوما مؤشرا للتغيير في سورية كما كان الحال عندما كنت في الخامسة والعشرين من العمر، وظننت مع جيلي حينذاك أن المقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية مفتاح التغيير في المشرق العربي كله. فقد تعلمنا من تلك التجربة ولكن أيضا من قراءة التاريخ، أنه في ثلاثة آلاف عام، لم تحكم دمشق يوما من بيروت، في حين دفعت بيروت غاليا ثمن حكومات دمشقية وكان التوازن الأجمل في أزمنة احترام كل من المدينتين للأخرى.

إلا أن قضية الصراع مع إسرائيل، التي كان حلفاء السلطات السورية فيها في المكان الصحيح، تاريخيا وديمقراطيا، وضعت على السطح، الهرولة الخفيفة لبعض رموز المعارضة نحو الخطاب الأمريكي والسياسة الأمريكية رغم كل الويلات التي نعيشها من هذه السياسة في الأنموذج العراقي. هذه الويلات التي لم تتكرر حتى اليوم في لبنان لأن الطرف الأقدر على صناعة الحرب الأهلية (حزب الله) يرفض توجيه سلاحه للداخل اللبناني.

لم يعط التحالف الغربي لسنيورة أية هدية، وعندما طلب بادرة تقوي مواقعه الوطنية قبل العدوان بموقف أمريكي من مزارع شبعا لم يستمع له أحد. وقد قبل أكثر من طرف لبناني بمساومة غير قادر عليها عمليا (خروج القوات السورية مقابل نزع سلاح المقاومة)، كما أن أكثر من معارض (من ذكر وأنثى) كتب لي بعد نشر مقالة لي عن العدوان الإسرائيلي: أفضل أن لا ترجع الجولان إن كان الثمن مشابه لما حدث في لبنان. وأظن أن مجرد دخول هذا الخطاب مخيلة بعض الأفراد يعطي التسلط الرسمي هدية لا يحلم بها، وهي الفصل بين الخطاب الوطني والخطاب المواطني مع كل ما يترتب على ذلك حتى بالمعنى الذرائعي من خسارة لجيل شاب، تتصاعد عنده ردة الفعل الوطنية الطبيعية في حقبة رديئة  الصراعات الحادة من أجل التفوق والهيمنة فيها تجري على حساب كل القيم والأعراف الإنسانية التي أنجبتها دماء الملايين في الحرب الكونية الثانية ونضالات البشر قبلها وبعدها. هل من الضروري التذكير أن إعجابنا كشبيبة في 1968 بأطروحات رياض الترك كان لموقفه من المقاومة الفلسطينية والوحدة العربية ؟؟

لن أطيل في المعادلات السياسية والحقوقية. وسأحاول العودة لأفكار طرحتها قبل عشرة سنوات حول علم نفس الجماهير المعنية بالصراع وتتابع إفراز النخب وهزائمها لأن ما حدث يعيد المرء دائما لتلك اللحظة التي لم يجد فيها الصديق منصف المرزوقي اسما أفضل للديمقراطية من الاستقلال الثاني، ولم يجد فيها هو نفسه عشية احتلال بغداد للوطنية اسما أعظم من المقاومة.

 أوجدت ولادة إسرائيل في المنطقة العربية صدمة نفسية وثقافية هائلة على صعيد الوعي الجماعي العربي.  لم يكن بمقدور الإنسان العربي أن يقبل بوجود دولة إسرائيل بأي مقاربة كان، فلا هو مؤمن بوعد التوراة لشعب الله المختار وهو لم يكن طرفا في مشروع الإبادة النازية لليهود وقد سمع من تعلم منه في مدارس المستعمر أن دوله الديمقراطية قد حلت مشكلة الأقليات الدينية في الغرب إضافة إلى علمه بوجود شعب فلسطيني على “أرض الميعاد”. لم يكن من واجب الخطاب الوطني أن يبصر براءة الأطفال في عيون المشروع الصهيوني، ولم يكن للعلمانيين الراديكاليين أن يقبلوا بدولة قائمة على الأسطورة الدينية وهم ، كما قال حينها الشاعر المصري السريالي جورج حنين، “يحاربون كل مرجع ديني للدولة”. لقد فرض على الشيوعيين الموالين للسوفييت قبول موافقة موسكو لمشروع التقسيم و كانت النتيجة أن هذا الموقف قد همّشهم أكثر مما همّشهم خوف المؤمنين من الشيوعية.

إن الرفض الجماهيري للمشروع الصهيوني رفض حسي يقوم على أساس عقلاني رغم عفويته ويعتمد على إحساس رافض للظلم وشعور بالخطر. كان جدي الفلاح الذي توجه مرارا إلى حيفا للعمل المؤقت  قبل 1948 يحدثنا عن تلك المرحلة بالقول: ” يا جدي كنا نشتم رائحة الموت، هالناس عمتشتغل لتحكمنا كلنا”. لم يكن من مصلحة  الحركة الصهيونية أن تلجم عقال متطرفيها كما أن حركة التحرر الوطني العربية كانت تحتوي على كل أنواع مرق التوابل. ومن المجحف بحق عناصر الصراع الإقليمية أن نبحث في مملكة سليمان عن نوازع كره غير اليهودي أو في الخلافة الإسلامية عن أصول غياب الطلائع الديمقراطية. فأهم مصادر الاستلهام والتأثر العالمية والإقليمية والتاريخية لم تكن ديمقراطية. وعندما كانت، لم تكن بالقوة الكافية لإقناع شيوخ العوام بالضرورة التاريخية للالتئام الاجتماعي في إطار تقاسم السلطة. فهذا المفهوم يعني طبقات الأمس الاجتماعية والسياسية ومناقشة إمكانية التعايش المشترك بين التعبيرات السياسية والمشاريع السياسية المختلفة.  لقد تزامنت نهاية المشروع القرون وسطي المحلي (الخلافة العثمانية) مع تصاعد الاتجاه العالمي للتسلطية الثورية أو العنصرية :  بداية عهد موسوليني (1922) وستالين (1924) وصعود الفاشية في ألمانيا والأزمة الاقتصادية والاتجاهات المتصلبة في الولايات المتحدة. إن التواتر بين صعود الفاشية في أوربة والتفهم العالي لهذه الظاهرة  في الولايات المتحدة مع تواجد اتجاهات قومية غير ديمقراطية قد طبع جيل حركة التحرر القومية الصاعدة الذي سبق و انكشفت هزالة الشعارات الديمقراطية في ممارسات المستعمرين الغربيين. وليس من الغريب أن نقرأ في الآن نفسه في تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية صدر في 1937 : “إن الفاشية تناسب روح إيطاليا ” فقد “جلبت النظام بعد الفوضى و الانضباط بعد التسيب و الوفرة بعد الإفلاس “.

إلى أي حد يمكن الحديث عن هوامش ديمقراطية في الحياة اليومية في ظل سلطات الانتداب في سورية الطبيعية ؟ لا شك بأن من المستحيل للقوات الاستعمارية أن تقيم سريعا أجهزة القمع اللازمة  لإخراس البشر خاصة وأن الجهاز العثماني لم يورث جزاريه لأحد. وفي مراحل الانتقال في بناء الكيانات السياسية من قبل قوات أجنبية هناك هوامش متعددة للعمل السياسي، هذه الهوامش ازدادت أهميتها مع بناء طرق المواصلات وإدخال التقنيات الحديثة التي أدمجت العوام في العملية التاريخية عبر وسائل  لم يبذلوا عسير جهد للحصول عليها. وبذلك غزت القرى السهلية والجبلية المدن حاملة معها كما يقول محمد حافظ يعقوب أحقادها الصغيرة ويقظتها التي لا تميز بين تصفية الحساب القروي أو الطائفي والمشروع الحضاري. أما في بوتقة الصراع المباشرة، فلسطين، فيمكن القول أن الصراع الوجودي قد فرض أولوياته بحيث لم يكن تعبير تطور الديمقراطية في فلسطين ذي دلالة أساسية، في حديثه عن تلك الحقبة كتب جول ميجدال: “في فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، فان الصراع المتواصل بين اليهود و العرب، فضلا عن النظام الكولونيالي الذي شجع الانقسام المؤسسي، قد منع تنامي مجتمع مدني يشتمل على كلا الشعبين في كافة أنحاء البلد. وحتى في داخل الحدود الاجتماعية لكل مجموعة من مجموعات المجتمع، فان ضرورات الصراع، والحاجة إلى حشد وتعبئة الناس والموارد بأوسع قدر ممكن، ومجابهة تحدي عملية التنظيم في إطار ظروف الكولونيالية، قد ركزت الاهتمام حول المنظمات السياسية المركزية لكل جانب. كانت تلك الفترة حاسمة لكل من الجانبين في مجال تطور العلاقات بين السياسة والمجتمع. وبالنسبة لليهود والعرب على السواء، فقد تدافعت المجموعات الأساسية من أجل بناء منظمات سياسية مركزية لمواجهة البريطانيين وبعضهما البعض، حتى قبل ذوبان المجتمعات نفسها في إطار الحدود الجديدة التي فرضها البريطانيون. لم يكن هناك مجال كبير لنشأة المنظمات المدنية ذاتية الاستقلال في كلا المجتمعين اليهودي و العربي، إذ أن المنظمات السياسية تطلبت السيطرة الكاملة على تنظيم الحياة الاجتماعية.”.

لقد صنعت النكبة أساطيرها و أيديولوجيتها المتمركزة حول العودة، الثأر والنصر. فقد ألغت قرارات الأمم المتحدة مفهوم الشرعية الدولية في أذهان الناس وضرب قرار التقسيم البعد التاريخي لصدور إعلان عالمي لحقوق الإنسان، ووضعت الشرعية الركيكة لأبناء الليبرالية الكولونيالية على كف عفريت. وتعبر سرعة وتيرة الانقلابات العسكرية في سورية عن مدى هشاشة كل مرجع محلي للشرعية بعد حرب 1948 ( 3 انقلابات في عام 1949 ؟) ولقد بدأت تنشأ شرعية “ثورية” بدون ثورات، شرعية تربط المصير بالمخلص -بالمفرد – حزبا أو فردا أو جيشا. ” لم يكن الطلب على الديمقراطية من قبل المحكومين في عقدي الخمسينات والستينات واهنا فقط بل وملتبسا على الأرجح. فلئن انخرط المحكومون في العقيدة التي يروج لها الزعيم الملهم بخصوص مساوئ الحزبية و التعددية وفضائل تغيب الرأي المختلف وسيطرة الحزب الواحد الذي يقوده الزعيم نفسه، فان هذا الأخير زرق خطاب التحرر السياسي بجرعة قوية من الأساطير التي تخلط بين الخصوصية والاستبداد والعدل والتعسف”.

لم يكن التسلط خيارا وحيدا لدول التماس العربية والدول الأخرى بل لعله وبكل المعاني قد شكل الخيار الأسوأ ، فلا وطن و خطاب وطني في غياب أسس المواطنة، لقد حقق المماليك انتصارات عسكرية هامة تبعتها عقود انحطاط ولم تكن انتصارات الجيش الانكشاري العثماني أقل عارا. أما بالنسبة لدولة إسرائيل وحملة إيديولوجية الدولة اليهودية فقد كانت خياراتهما محدودة إلى حد كبير، ولا نستغرب شبه الإجماع على شكل طائفي للنظام السياسي مع هيكل برلماني للقادمين من بلدان ليست ذات خبرة ديمقراطية، ففي الوعي الجماعي والسياسي لحقبة نشأة الدولة، يشكل العمق اليهودي في الغرب المحور المركزي لالتزام دول الغرب بدعم إسرائيل والمنظم الأساسي لقنوات الثروتين الوافدتين  البشرية والمالية. ولا يمكن للإسرائيليين تعبئته أو منحه  السلاح اللازم على المدى الطويل دون انتساب الحد الأدنى في الأنموذج والمصالح مع الدول الغربية. لقد حول الإسرائيليون عدوانيتهم باتجاه الشعب الفلسطيني والعرب للتمكن من بناء شبه انسجام داخلي أساسه النحن والآخر، وشكلت فكرة القبيلة المحاطة والمحاصرة  التي تخوض معركة وجود أو لا وجود  أساس الضرورة الحيوية لمفهوم المشاركة في السلطة وتداولها. إلا أن البعد الطائفي للدولة لم يتوقف عند غير اليهود،  فقد دخل في شرايين التركيب الاجتماعي اليهودي نفسه خالقا هوة كبيرة بين اليهود الشرقيين واليهود الغربيين من جهة  وتحت انتماءات وفق بلدان المنشأ من جهة ثانية. على صعيد الانسجام الأيديولوجي ستبقى الصهيونية لسان حال الأغلبية الساحقة رغم قراءاتها السياسية المختلفة. أما العسكرة البنيوية للمجتمع والدولة فقد أظهرت منذ وقت مبكر أن الجيش وسيلة ارتقاء سياسية أكثر هيبة من الحزب والجامعة، وفي اجتماع هذا الثلاثي تكتمل الصورة.

بنت الإيديولوجيات القومية العربية خطابها المهدوي على حتمية واقتراب الانتصار الذي يزيل العار عن الأمة المغتصبة، وقد منحتها التجربة الناصرية الصاعدة زخما نفسيا هائلا  فعبد الناصر أمم القناة وحقق الاستقلال وأول وحدة عربية معاصرة بالإمكان الذهاب معه إلى آخر الشوط لتحقيق الرسالة الخالدة المنشودة. لذا ورغم الإنتاج السياسي الخصب لتجربة 1954-1958 لم تناقش بجدية من أي طرف جماهيري قضية الحفاظ على التعددية الحزبية والاستقلالية النقابية والأهلية. وعلى العكس فقد استخدمها خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري كذريعة لرفضه للوحدة ورفض فكرة حل حزبه. أما بالنسبة لعبد الناصر فلم يكن هناك أية أوهام حول ضرورة العودة إلى ما اعتبره جيله النظام الملكي القديم:  في مقابلة للرئيس جمال عبد الناصر مع رئيس تحرير جريدة هندية في مارس 1957 قال الصحفي: هل يمكنني أن أوجه إليك السؤال التالي : ما هي الديمقراطية ؟ ويجيب ناصر : كان يفترض وجود نظام ديمقراطي في مصر في الفترة الواقعة بين عامي 1923 و 1953. ولكن، ما الذي قدمته هذه الديمقراطية لشعبنا ؟ أقول لك : في تلك الفترة كان ملاك الأرض والباشوات يحكمون شعبنا . لقد استخدموا هذا النمط الديمقراطي: أداة سهلة لتحقيق مصالح النظام الإقطاعي. لقد رأيتم الإقطاعيين يجمعون الفلاحين و يسوقونهم إلى غرف الاقتراع، حيث كان الفلاحون يدلون بأصواتهم طبقا لتعليمات سادتهم .. إنني ابغي تحرير الفلاحين والعمال سواء من الناحية الاجتماعية أو من الناحية الاقتصادية ، بحيث يمتلكون القدرة على قول “نعم” . إنني أود أن يصبح بمقدور الفلاحين والعمال أن يقولوا “نعم” و “لا” دون أن يؤثر ذلك على سبل رزقهم و قوتهم اليومي. وهذا من وجهة نظري هو أساس الحرية والديمقراطية”.

لم تكن قناعة الضباط البعثيين السوريين تختلف قيد أنملة عن هذه الأطروحات، وقد كان في جمجمة معظم أعضاء اللجنة العسكرية التي تشكلت سرا في مصر هذه الشعبية الأسطورية للزعيم التي يمكن أن يعاد إنتاجها، عبر شخصه،  في ماركة بعثية مسجلة.

لم تشكل حرب حزيران 1967 بهذا المعنى المنعطف الذي أعاد للديمقراطية الاعتبار بعد هزيمة النظامين الناصري والبعثي في الحرب، فالأقلام الجديدة تتحدث عن حرب التحرير الشعبية و نجاح ستالين في عملية تصنيع الاقتصاد السوفييتي كما أكد لنا يومها صادق جلال العظم، وتجمع الستالينيات “الجديدة”  على أن الثورات الناجحة هي تلك وحسب التي قادها حزب شيوعي ثوري، وان من الترف إضاعة الوقت مع القوى الانتهازية على يمينه والطفولية على يساره. إلا أن كره الستالينية نفسه وسيف القمع، أكثر منه وعي ضرورة تاريخية، سيجعل للمدافعين عن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان أنصارا في صفوف اليسار في مصر و سورية و لبنان.

لقد كنا جميعا نعيش تحت طائلة هزائم الجيل الذي سبقنا وهاجس هزيمة محتملة الأمر الذي عزز مواقع أصحاب المواقف الصارمة وأظهر الاتجاه الأكثر ديمقراطية كتعبير للميوعة والهلامية وضياع الرؤية الواضحة. وللأسف فان أول حملة الكتابات الديمقراطية كشعار مركزي كانوا في الممارسة يغطون تجاوزات الأصوليين ويتسترون على الطبيعة التعسفية لمصادر لقمة خبزهم الفلسطينية أو الليبية أو العراقية بل و السورية  وبشكل أقل من اليوم،  دول الخليج، وقد احتاجوا لأكثر من عشرة سنين لاكتشاف تعبير المنظمات غير الحكومية والسلطة المضادة. أما الجمهور الأوسع فلم يعد يثق بعالم الإنسان فصعد إلى السماء بحثا عن نجدة الله لإنقاذه من ظلم حكامه والصهيونية والإمبريالية الذين اتفقوا على كون الديمقراطية علاج غير ناجع له. إن إسرائيل ، كما يقول عزمي بشارة، ” تميل إلى الاعتقاد بأن الديمقراطية في أي بلد عربي تعتبر مجازفة كبيرة، بمعنى أن إسرائيل لم تتغلب – ولا اعتقد أنها في المدى القريب سوف تتغلب – على شعورها بالغربة في المنطقة، وعلى شعورها بأن التقدم و التكنولوجيا و الديمقراطية العربية هم تهديد لها.”.

“ولا شك بأن مفهوم السيادة بمختلف تعريفا ته السياسية والاقتصادية ذو صلة مباشرة وبآن معا بالديمقراطية في العالم العربي وبالصراع العربي-الإسرائيلي في ذاته وفي مجمل صلاته بالحقبة الكولونيالية الجديدة. ومهما جعلت العولمة من هذه السيادة قضية نسبية، فقد قامت بذلك في إطار الهوة اللا متكافئة بين نسبية عالمثالثية ومبالغة في سيادة الأقوى وتنصبه فوق القانون والجغرافيا وإمكانية محاسبته أو تقييم أفعاله. بالانطلاق من هذه الواقعة يصعب تصور سيناريوهات أمريكية تصب في صالح تشكل دولة-أمة ذات طابع ديمقراطي وتنموي في الأرض العربية. وبهذا المعنى التقت المصالح الأمريكية والإسرائيلية مع الكيانات التسلطية على أكثر من جبهة ومن أكثر من منظار”(هذه الفقرة من محاضرة لي عام 1996 تركتها كما هي).

فلقد فرّغت هذه الدول مفهوم السيادة من محتواه بتغييبها للمواطنة باسم الوطن وخلطها بين أمنها كسلطات وسيادة الأمة، فالحكومات المتتابعة للأسد الأب والابن، في دولة تماس لأطول فترة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي تعتبر هذا الأمن عينه سببا لغيابٍ مشروعٍ وإرادة لديمقراطية ليست مناسبة لهذه الدولة  التي ” لا تشكل نسخة مطابقة لأي دولة في العالم” ،   ناهيكم عن حرفها شعبنا الصامد عن متطلبات الصراع مع العدو :

لقد أوجد تحطيم التعبيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمع السوري فراغا هائلا يتجاوز بكثير أبعاد الصراع العربي الإسرائيلي الأمر الذي يجبر السلطة على التذرع بهذا العامل في الحرب والسلم كلاهما. ولا أوهام البتة حول ضغوط غربية لدمقرطة البلاد فأقصى ما تطالب به الحكومات الغربية هو  تخفيف حجم المؤسسة العسكرية ووقف الهجرة البشرية إليها وضمان سلامة من تبعده عن أراضيها و إسداء النصح غير المباشر لعقلنة أفضل للقمع.

أما على الجبهة الإسرائيلية وحيث هاجس الاستفادة القصوى من حقبة الهيمنة الأمريكية قد رافق مخاوف صعود الحمى الإسلامية فقد تغيرت نسب مكونات المجتمع الإسرائيلي من جديد بوصول موجات كبيرة من اليهود الروس الملوثين بالتعصب وآفات المافيا الروسية وأكثر اليهود تطرفا في أنحاء العالم في السنين العشر الأخيرة. ومن الصعب الحديث عن اندماج مدني بقدر ما يمكن الحديث عن تماسك عصبوي بالمعنى الخلدوني. تتحول التجربة البرلمانية بشكل أكثر وضوحا إلى تحالفات ما تحت دينية يشكل الدين بالنسبة لها الغطاء الشرعي الأقوى، ويعيش هذا المجتمع ثنائية الخوف من كلا استمرار الحرب و ضرورة استمرارها باعتبار هذا الرهاب (الفوبيا) المزدوج الإنتاج الأكثر تماسكا وقوة منذ بدء الصراع، لقد كشف اغتيال اسحق رابين ومن بعده انتخاب اليمين المتطرف عن البعبع المختبئ وراء التعبئة الحاقدة والعنصرية تجاه غير اليهود والتي لم يعد بالإمكان إيقافها دون زعزعة جملة الأسس الإيديولوجية التي تربت عليها الشبيبة الإسرائيلية. هذه الأسس  أضحت تهدد المنظمات غير الحكومية نفسها بل والهامش البرلماني الإسرائيلي. ويمكن القول أن فئة الخارجين عن القانون الدولي بالمساعدات الدولية من المستوطنين قد أصبحوا قوة انتخابية في بلد مازال بإمكان التشكيلات الصغيرة أن تعطي أغلبية برلمانية. لا يهم إذا كان الاستيطان وفق المحكمة الجنائية الدولية جريمة ضد الإنسانية فإن الدولة العبرية لن تصدق عليها ولن تحترم ما صدقت عليه؟ وهي على قناعة بأنها قد قامت بالخيار الصحيح تاريخيا بمراهنتها على الحليف الأمريكي ويجب أن تحصد نتائج ذلك بصيرورتها قوة إقليمية أولى في وقت لا يجد من يعاديها من يبيعه حتى بنادق الصيد.

من كفر قاسم إلى قانا الثانية، قامت إسرائيل بفعل ما يجب لإذكاء شحنات حقد هامة في الوعي الجماعي العربي رجحت الهم الوطني على الهم الإنساني والديمقراطي. إلا أن التوظيف السياسي المبتذل للأحاسيس الشعبية قد ارتد عليها سلبا فيما زعزع الثقة بالسياسة بالمعنى الواسع للكلمة أي بثقة الأفراد في فكرة المشاركة العامة في قضايا وهموم الأشخاص والجماعة. وبعد أن عززت الإيديولوجية الصهيونية الإيديولوجيات القومية العربية بشكل رد فعلي، لم يلبث النموذج الإسرائيلي أن أصبح مثلا يضربه الإسلاميون لنجاح دولة اعتمدت الدين أساسا لمفهوم الشعب والأمة. ليس بالإمكان اعتبار ولع المغلوب بتقليد الغالب وفق ابن خلدون تفسيرا كافيا لهذه الظاهرة، فالتمييز الطائفي بين   اليهودي و”الغوي”(غير اليهودي) يجعل من عاديات الأمور إقامة تمايز بين المسلم وغير المسلم.

ها نحن في حقبة تتميز بجسامة الضغوط لتهميش  مزدوج للصراع العربي الإسرائيلي وللديمقراطية معا، الأمر الذي يعقد إشكالية العلاقة بينهما أكثر فأكثر. فقد أوصلتنا التشكيلات التسلطية إلى ما يعبر عنه محمد السيد سعيد بالقول  ” التشكيلة السياسية السائدة لا تسمح بتولد الديمقراطية إلا بقدر يسير. إذ أن الاستقطاب شبه الثنائي بين الدولة شبه الليبرالية والقوى شبه الشمولية لا يستدعي كثيرا من الآمال الديمقراطية. فالدولة ذاتها لا تصور نفسها باهتمام كبطل للديمقراطية والقوى الإسلامية المنافسة لا تدين الدولة  لأنها ديمقراطية أو حتى لأنها غير ديمقراطية. فالصراع لا يدور أصلا حول الديمقراطية إلا كنتاج ثانوي”.

إن تتبع مسألة الصراع العربي الإسرائيلي وتطور الديمقراطية يوجه أنظار الباحث إلى عاملين أساسيين في الصراعات البشرية هما الذاكرة الجماعية لشعب وتأثير التصرفات العدوانية ذات الطابع التفوقي، أي القائمة على إذلال الآخر، على أواليات تشكل الوعي في المجتمع. فمهما كانت أهمية العوامل الجيو إستراتيجية والطبقية والاستراتيجيات الإقليمية والعالمية، فإن نفسية الأفراد والجماعات ترتكز أيضا على شحنات انفعالية وعاطفية هامة تجعل الحديث عن تهميش موضوعي للصراع العربي الإسرائيلي  مسألة جد نسبية ومتعددة الاتجاهات. إن نظريتي الأمن الأحادي الجانب والحفاظ على التفوق العسكري اللتان يجمع عليهما اليسار واليمين في إسرائيل منذ قرابة 60 عاما تشكلان المصنع الأكبر لإنتاج الحقد والعنف في المنطقة على ضفتي الصراع. إن أكثر الأحاسيس إيلاما الشعور بالظلم ولم يشكل اغتصاب كرامة الآخر في يوم من الأيام عامل أمان واستقرار نفسي للغاصب. من هنا الإحساس العفوي الرد فعلي والغالب إلى أن استعادة الحق مسألة تسبق الحق في الحريات. هذا الحس التلقائي الخديج (غير المكتمل)، لم يبلغ بعد حالة عقلنة الضروريات في حاجات شعب، أي إدراك دور الديمقراطية في القضاء على العدوان، كونه في غيابها،  بوعي أو بدون وعي، تنفذ الضحية برنامج الجلاد. فإن لم يكن هناك معارضة ديمقراطية وطنية تقرأ في التاريخ والحاضر فشل أية ثورة طبقية صرف، وغياب أي مثل لتحول ديمقراطي حاف في بلدان البرنامج الوطني غير المنجز، أدركنا أن الربط بين مقاومة الاستعباد الخارجي والاستبداد الداخلي تشكل المعادلة الأوحد للتعبئة الواسعة في جماهير الشبيبة التي إن لم تجد هذا البعد الشامل في المعارضة السياسية، ستستسلم لسلبية لجأ لها جيل كامل أو ستبحث عن مشاركتها السياسية في إيديولوجية شمولية جديدة أو قديمة، لا يهم، إلا أنها بالضرورة غير ديمقراطية.  

 12/11/2006