أبريل 25, 2024

المحاسبة في جرائم غوانتانامو: بين المستحيل والممكن

Guantanamo correctionيمكن القول أن الإدارة الأمريكية الحالية في لحظة القوة والهيجان، أي قبل تقصيص أجنحتها في وزارة الدفاع وسقوط رامسفيلد- وولفوفتز وعدد من مستشاري الرئيس ونائبه والفريق المحيط بوزيري العدل جون أشكروفت وألبرتو غونزاليس، كانت تملك احتياطا قويا من رجال القانون الإيديولوجيين والكوادر الإعلامية المؤيدة وثلاث جماعات ضغط هي الأقوى في الولايات المتحدة اليوم: لوبي صناعة السلاح، اللوبي النفطي واللوبي الموالي لإسرائيل. وبهذه الترسانة، كانت تتحرك على عدة أصعدة قانونية وإدارية ودبلوماسية للحؤول دون ما تعرف بأنه في القانون الدولي انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان وجرائم لا تزول بالتقادم في العرف والقانون الدوليين. فقبل أن يتحرك أي جندي أمريكي خارج الأراضي، صدر الباتريوت أكت لوضع دولة القانون تحت سيطرة حالة استثنائية وسلطات استثنائية تسمح بالاعتقال القسري والتصنيف للأفراد والجماعات والملاحقة داخل وخارج الولايات المتحدة والطرد والإدانة وفق أدلة سرية أو معطيات أمنية. أما بالنسبة لقانون الإنساني الدولي فقد أصدرت وزارة الدفاع  “تعليمات” اعتبرتها المرجع القانوني العسكري الأول وليس اتفاقيات جنيف وملحقيها، وأجبرت الخارجية الأمريكية مجلس الأمن باتخاذ قرار لا سابق له باستثناء جنود دولة واحدة في العالم من المثول أمام العدالة الدولية، واعتبر الرئيس الأمريكي في كلمته المعنونة “استراتيجية الأمن القومي” أن أي من قواته لا يمكن أن يخضع لا لإجراءات أو قواعد أو ملاحقات تقوم بها المحكمة الجنائية الدولية. وتحركت الإدارة الأمريكية بشكل دينامي لإجبار أكثر من سبعين دولة على توقيع اتفاقيات ثنائية تلزم أشباه الدول الواقعة في فلك القوة الأعظم بوضع مواطني الولايات المتحدة الأمريكية خارج نطاق المحكمة الجنائية الدولية والاختصاص الجنائي العالمي في أي قضية تنال جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وفي معظم الحالات تحت طائلة قطع المساعدات الاقتصادية.

منذ الحادي عشر من سبتمبر/أيلول والإدارة الأمريكية تقول على رؤوس الأشهاد، بأن سلطة الرئيس، بوصفه قائدا عاما في وقت الحرب تخول له الحق في احتجاز أي شخص يصنفه على أنه من “مقاتلي العدو” في سياق “الحرب على الإرهاب”، وذلك إلى أجل غير مسمى وبدون توجيه أي تهمة إليه. وعلى هذا الأساس بنت وزارة الدفاع سجنا في قاعدة غوانتانامو مّر عليه أكثر من 880 سجينا أعلنت السلطات الأمريكية عنهم للصليب الأحمر الدولي. وتذهب الإدارة إلى القول بعدم اختصاص المحاكم الأمريكية العادية بإعادة النظر في اعتقالهم. لذا قامت بإنشاء محاكم عسكرية لمحاكمة المواطنين غير الأمريكيين الذين يزعم أنهم مسؤولون عن أعمال إرهابية. وبناء على طلب السلطة التنفيذية وتواطؤ وزير العدل، تتجنب هذه المحاكم المتطلبات الضرورية لنزاهة المحاكمة، مثل تهيئة الفرصة الكاملة لتقديم الدفاع والحق في المراجعة القضائية المستقلة. سلطة فوق القانون هي تلك التي فرضتها الإدارة الأمريكية على ملف غوانتانامو، فكما تقول أليسون باركر وجيمي فيلنر: غوانتانامو “منطقة تسعى إدارة بوش إلى تحويلها إلى أرض مشاع غير مملوكة لأحد من الناحية القانونية”. بتعبير آخر، نحن أمام سياسة “المناطق الحرة” للاعتقال التعسفي التي لا تخضع لأية ضوابط قانونية أو أخلاقية. لقد  وضع الجرم خارج الأراضي وفوق القانون الأمريكي، الوحيد المقبول على الأراضي الأمريكية لأية احتمالات محاسبة.

وضع معتقلو غوانتانامو بادئ الأمر في أقفاص مؤقتة، ثم نقلوا إلى زنزانات في مبان سابقة التجهيز، وللعام السادس مازال أكثر من 280 سجين محتجز في شبه عزلة عن العالم الخارجي. ففيما عدا مسؤولي الحكومة الأمريكية ومسؤولي السفارات والمسؤولين الأمنيين القادمين من بلدان هؤلاء المعتقلين ومحامين أمريكيي الجنسية، لم يسمح إلا لمنظمة الصليب الأحمر الدولية بزيارتهم، ورغم أن مناهج العمل السرية التي تتبعها المنظمة تمنعها من إصدار تقارير علنية عن ظروف الاعتقال. فقد ذكرت المنظمة أنها لاحظت وجود “تدهور مقلق في الصحة النفسية لعدد كبير” من المعتقلين يعزى إلى القلق بشأن مصيرهم في المستقبل.

لم تسمح إدارة بوش لأقارب المعتقلين أو منظمات حقوق الإنسان، بزيارة القاعدة، فضلاً عن المعتقلين أنفسهم. وإذا كان مراسلو وسائل الإعلام قد سمح لهم بزيارة القاعدة للحديث مع المسؤولين، فلم يسمح لهم بالحديث مع المعتقلين، وظلوا على مبعدة منهم بحيث لم يروا إلا طيفاً ظلياً لهم تلقيها أشعة الشمس على جدران الزنزانات. ولم يتمكن المعتقلون من الاتصال بعائلاتهم إلا في أحوال متفرقة من خلال الخطابات التي تخضع للرقابة. وقد اشترطت الإدارة الأمريكية على وفد المفوضية السامية لحقوق الإنسان عدم مقابلة السجناء فلم يتوجه إلى غوانتانامو إلى اليوم بهذا الشرط الذي يفقد زيارته معناها.

وفق المعطيات الرسمية جرت 28 ألف عملية استجواب في أربع سنوات ؟  ورصدت 16 طريقة تعذيب في غوانتانامو من منظمات حقوق الإنسان. منها الحرمان من النوم والأصوات القوية غير المحتملة والإضاءة القوية الدائمة وغاز الفلفل وتهييج الكلاب والاعتداء والتحرش الجنسي. وتشمل المشكلات الصحية للمعتقلين جهاز الأمعاء والجهاز التنفسي والجهاز العصبي والهيكل العظمي والأمراض النفسية, وردا على الأوضاع اللا إنسانية في المعتقل، قام السجناء بأكثر من سبعين إضرابا عن الطعام، الأمر الذي جعل الإطعام الإجباري بالأنابيب، كما هو الحال مع سامي الحاج، وسيلة تعذيب جديدة.

وحسب ما تقوله إدارة بوش، فإن المعتقلين في غوانتانمو ليس لهم الحق في المثول أمام القضاء لإعادة النظر في مشروعية اعتقالهم، ولا حتى أمام محكمة عسكرية. وحتى اليوم، تصر الإدارة على أن قوانين الحرب تخولها سلطة مطلقة لمواصلة احتجاز المقاتلين ما دامت الحرب مستمرة، وتقول الإدارة إن “الحرب” المعنية هي الحرب على الإرهاب، وليس الصراع الدولي المسلح في أفغانستان، والذي أسر خلاله معظم المعتقلين في غوانتانامو.

تنتهك الإدارة الأمريكية في غوانتانامو الحق في إحضار المعتقل أمام قاضٍ للنظر في قانونية اعتقاله هذا الحق الذي ظهرت إرهاصاته في الوثيقة العظمى “الماغنا كارتا” منذ عام 1215، ثم كفله الدستور الأمريكي بعد قرون من استخدامه في إنجلترا،  وهو يضمن لكل شخص حرم من حريته، المراجعة السريعة والفعالة من جانب القضاء تلافيا “لكافة أشكال الحبس غير القانوني”. كذلك تنتهك اتفاقية مناهضة التعذيب التي صدقت عليها في1992، وهي ملزمة بالتعويض للضحايا ولا يكفي أن يتوقف الأمر عند الجملة المأثورة التي يودع بها المعتقل المفرج عنه: “نأسف لما حدث لك”. فعلى الرغم من النقد اللاذع الذي وجهه المفتش العام لأسلوب الحكومة في معاملة المعتقلين، لم تتراجع وزارة العدل عن أي اعتقال حدث على الأراضي الأمريكية بداعي الحرب على الإرهاب، بل أصدرت بيانا علنيا قالت فيه “إنها لا تقدم أي اعتذار عن تلمس كل السبل القانونية الممكنة لحماية الشعب الأمريكي من التعرض للمزيد من الهجمات الإرهابية… فالنتيجة قد تكون مسألة حياة أو موت”. ومنذ أكتوبر/تشرين الأول 2003، لم تعتمد السلطة التنفيذية إلا توصيتين من توصيات المفتش العام الإحدى والعشرين المعدة للحيلولة دون تكرر المشاكل المسجلة على الأراضي الأمريكية وما زال الصراع محتدما بين المؤسسات القضائية العادية والعسكرية بشأن معتقلي غوانتانامو، وهم في هذا الوقت يدفعون الثمن أكثر من أربعين محاولة انتحار ومقتل أربعة في ظروف لا يسمح البنتاغون بتحقيق مستقل في ظروف وفاتهم .

إن واحدا من أهم نقاط ضعف المحاكم الأمريكية فشلها في أوقات الأزمات القومية في حماية الحقوق الأساسية غير القابلة للمس ومن أشهر أمثلة هذا، العجز المشين عزل الأمريكيين اليابانيين إبان الحرب العالمية الثانية، الذي أقرته المحكمة العليا.

لكن هل يعود الأمر نفسه بعد نصف قرن ؟ وكأن التاريخ مستنقع آسن؟ لا بد من صدمة خارجية لواجبات القضاء في الولايات المتحدة، صدمة تكون عبر متابعات قضائية خارج الأراضي الأمريكية وأمام المحكمة الأمريكية القارية لحقوق الإنسان. إن مباشرة دعوى قضائية في برلين على وزير الدفاع السابق رامسفلد وتحضير الملف القضائي لمدير سجن غوانتانامو سابقا جيوفري ميلرGeoffrey Miller  يعدان من الخطوات الضرورية لوقف حالة الإفلات من العقاب للمسئولين الأمريكيين، ومن الضروري أيضا قيام محاكم ضمير للمجتمعات المدنية من أجل محاكمة المسئولين الأمريكيين بشكل خاص الرئيس الأمريكي الحالي ونائبه عما ارتكب من جرائم جسيمة، في أفغانستان والعراق وغوانتانامو، باعتبارهما في القانون الأمريكي والعرف الدولي، لم يمنعوا وقوع جرائم جسيمة ضد الإنسانية.

إن النجاح في محاكمة حوت كبير واحد، تكفي لجعل كل جلادي أجهزة الأمن في الدكتاتوريات الصغيرة يصدرون على أنفسهم حكما بعدم مغادرة بلدانهم خوفا من المحاسبة.

01-10-2007